الجزائر

''غوبلز'' لم يمت


عندما أقدم إعلاميو ''سي آن آن'' على مرافقة الجيش الأمريكي في حرب الخليج الأولى، وهم يرتدون بزة المارينز العسكرية، أقام سدنة المهنة وحراس معبد المهنية وأخلاقها والاحترافية وقواعدها، الدنيا ولم يقعدوها، فالسابقة خطيرة جدا، إذ كيف لصحفي أن يغطي حربا من خلال نافذة دبابة أو زجاج عربة مدرعة؟ وكيف لهذا الصحفي أن يضمن لتقاريره الحد الأدنى من الموضوعية والمصداقية وعلى رأسه خوذة أحد طرفي النزاع؟.. كنا حينها أبعد ما نكون عن مفهوم الإعلام المحايد، كما كنا أقرب إلى نظرية غوبلز، وزير هتلر للدعاية، في توجيه الرأي العام وفق مبدأ ''اكذب عليهم حتى يصدقوك''.
اليوم وبعد مرور عقدين على حرب الخليج الأولى، لم يتغير شيء في أصل المشهد، مع تسجيل بعض الفوارق التي تأتي لتؤكد تفاقم الداء وبلوغه أجزاء أخرى من الجسد، ففضيحة ''سي آن آن'' بالأمس كانت الشاذ الفاجر الذي يستثنى من قاعدة المهنة النبيلة، أما اليوم فإن العهر الإعلامي أضحى هو القاعدة، ذلك أن عشرات المؤسسات الإعلامية الغربية والعربية، التي صمت أذاننا وأرهقت عقولنا بدروس ومحاضرات وخطب في الحياد والموضوعية، تحولت اليوم إلى كتائب وفيالق في هذا الجيش أو ذاك، يمارس مستخدموها نشاطهم، أي نعم، داخل استديوهات وقاعات تحرير ومكاتب فارهة ومكيفة بعيدا عن أسراب المروحيات وأرتال المصفحات، ويرتدون أرقى ما تنتجه الماركات العالمية من بدل وقمصان وربطات عنق، لكنهم يقومون بنفس الدور المشبوه مقابل حفنات حقيرة من الدولارات.
والفارق أيضا هو أن أحبار المهنة وسدنتها أصيبوا اليوم بالبكم، وكأن ألسنتهم قطعت، فلا تنديد باغتصاب للقواعد ولا شجب لدوس على الأخلاق، ولا دعوة للعودة إلى القيم.
ومع مرور الوقت صار الأصل في مهنة الإعلام أن نبث صورا ''لقيطة'' لا نعرف لها أصلا من فصل، هل هي لهاو أم لمحترف؟.. وأن نطلق أخبارا لا أمل في تأكيدها لأنها منسوبة إلى مصادر افتراضية منها ما هو ''ناشط'' ومنها ما هو ''شاهد'' ومنها ما هو ''شبكة''، فلا اسم ولا لقب ولا صفة ولا هم يحزنون.. وأن نخلط الخبر بالتعليق.. أن نزايد على الضيف المعارض بمعارضة أكبر وعلى الضيف المؤيد بالتأييد أكثر.. كما صار الأصل في أن نمنح الكلمة للرأي وللرأي نفسه.
آه لو يصحو غوبلز من نومته الأبدية، لأقام الأفراح والليالي الملاح، كيف لا ونظريته لم تدفن مع انهزام ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، بل استمرت وعاشت وترعرعت وتورمت وأصابت الإعلام بأبشع ما قد يصيب مهنة من تشويه.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)