الجزائر - 08- La guerre de libération

ضرب آخر محاولة لتموقع المصالية بالمغرب



كانت جبهة التحرير الوطني ـ التاريخية ـ سباقة لتأسيس قواعد خلفية في دول الجوار ـ وفي مصر أيضا ـ وتفعيلها، لتموين وإمداد جيش التحرير بالداخل، فضلا عن الدعوة إلى الثورة الزاحفة في مختلف أنحاء العالم..

وتفطنت الحركة المصالية ـ المناوئة للجبهة ـ إلى أهمية هذه القواعد، لكن بعد فوات الأوان.. ويؤكد ذلك فشل تموقعها ـ المتأخر ـ بالمغرب خاصة، حيث استطاعت الجبهة القضاء على محاولاتها الواحدة تلو الأخرى..

سقط خلال هذه المحاولات العديد من المناضلين البسطاء، لكن سقطت أيضا عناصر قيادية بارزة على غرار:

ـ العربي أولبصير، أحد ركائز الحركة الوطنية بوادي الصومام الذي اختفى شمال المغرب سنة 1955 إلى الأبد..

ـ المحامي محمد الصغير بالبڤرة، من كبار المناضلين الوطنيين على محور معسكر ـ وهران.. وقد اختفى بدوره في أكتوبر 1956.. بعد محاولة فتح مكتب للحركة المصالية بالرباط.. ونقف في هذه الحلقة مع هذا المناضل الكبير، لتقديم نبذة وجيزة عن حياته ونضالة سياسيا ومدنيا ومهنيا، كما نقف عند نهايته المأساوية بالمغرب، معتمدين في ذلك بصفة خاصة على محضر استنطاقه، المنشور في كتاب المناضل الكبير امحمد يوسفي ـ من أركان المنطقة الخاصة ـ بعنوان “الجزائر السائرة” (ج2)، الصادر عن المؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائر عام 1985..

للتذكير أن المناضل الكبير الشيخ محمود بوزوزو نجا سنة 1957 من نفس مصير بالبڤرة وأولبصير، لولا تدخل النقيب مصطفى مرافق عمر بن بولعيد وكان الإثنان محبوسين مع الشيخ.. وأدى تدخله إلى لجوء الثلاثة إلى السلطات المغربية التي تدبرت أمر تسفيرهم إلى الخارج..

محامي زبانة وڤديفي وبحري..

ولد محمد الصغير بالبڤرة بسيڤ (معسكر) في11 ديسمبر 1918، ونشأ بمعسكر حيث كان والده قاضيا بمحكمتها، وبعد الدراسة الإبتدائية التحق بمدرسة تلمسان، وهناك بلغته الدعوة الوطنية، فانخرط سنة 1937 بحزب الشعب الجزائري سنة تأسيسه بباريس في 11 مارس.

وفي سنة 1938 طرد من المدرسة بسبب نشاطه السياسي، ومشاركته في شن إضراب لتلاميذ المدرسة خاصة، عقب ذلك التحق بنظام التعليم العام، دون التخلي عن نشاطه السياسي، كما تدل على ذلك قيادته لفرع معسكر بجمعية تلاميذ الثانويات والمعاهد سنة 1942.. وبعد عامين ألف مسرحيته بعنوان “اليتيم” ثم عرضها بواسطة فوج الكشاف للمدينة بمناسبة عيد الأضحى. وبعد الحصول على شهادة البكالوريا التحق أولا بكلية الحقوق لجامعة الجزائر، قبل أن يواصل بجامعة باريس التي تخرج منها سنة 1948..

وأثناء فترة الدراسة بباريس، شارك في تأسيس اتحادية حركة انتصار الحريات الديمقراطية بفرنسا، وانتخب ضمن أمانتها التنفيذية..

وبعد إنهاء تربصه بباريس عادت إلى الجزائر ليستقر محاميا بوهران..

وفي ديسمبر 1948 زار عائلته بمعسكر، ويفيدنا تقرير محافظ الشرطة حوله إلى رئيس الدائرة بتاريخ 18 من نفس الشهر، أنه حل بالمدينة في 8 ديسمبر، وكان يتجول فيها صحبة مناضلين وطنيين معروفين، أمثال مصطفى اسطنبولي، مولود حبيبي، عبد القادر طفراوي، البشير بن يحي.. إلخ

ويخبرنا محافظ الشرطة بالمناسبة، أن شقيقه أيضا كان مغضوبا عليه من إدارة الإحتلال! فقد كان باش عادل بمحكمة معسكر، فعوقب بتخفيض رتبته إلى مجرد عادل ونقله إلى العلمة (سطيف).

لكنه رد على هذا الإجحاف برفض الإلتحاق بمنصبه الجديد، وطلب إحالته على الإستيداع مؤقتا! أصبح بالبڤرة بوهران محاميا للمناضلين الوطنيين، على غرار كيوان وشنتوف ـ وغيرهما ـ بالجزائر العاصمة..

وفي هذا الإطار شارك في الدفاع عن المتهمين في قضية بريد وهران (سنة 1949)، رفقة المحاميين الفرنسيين “توفني” و”شارنة”، بتكليف من “لجنة مساندة ضحايا القمع” التي كان على رأسها المحامي عبد القادر وڤواڤ.

كما شارك في الدفاع عن المتهمين في قضية “المنظمة الخاصة” ابتداء من 6 مايو 1951.. نذكر منهم: أحمد زهانة (زبانة)، بن علي ڤديفي، ميسوم بحري، سنوسي بريكسي..إلخ..

وكان بالبڤرة إلى جانب نشاطه المهني هذا، نشيطا أيضا على الصعيد المدني، فقد كان مثلا في لجنة تسيير مدارس حزب الشعب بغرب البلاد عامة..

خلاف الجبهة والحركة:

محاولة وساطة فاشلة

خلال أزمة القيادة بين الحاج مصالي وخصومه في الآمانة العامة لحركة الإنتصار - التي خرجت إلى عامة المناضلين في فبراير 1954 - وجد المحامي محمد الصغير بالبقرة نفسه ضمن تيار زعيم الحزب.

وبهذه الصفة شارك في مؤتمر “أورنو: (بلجيكا) منتصف يوليو 1954، وعين في القيادة الوطنية...

وغداة اندلاع الثورة وتشكيل “الحركة الوطنية الجزائرية” في ديسمبر من نفس السنة، حافظ على منصبه القيادي... وكان قبل ذلك، قد حاول عشية فاتح نوفمبر صد الحاج بن علا عن الإنضمام إلى جبهة التحرير الوطني، صاحبة المبادرة التاريخية بإعلان الثورة على نظام الإحتلال الفرنسي. لكنه لم يوفق، لأن الحاج كان التحق بالركب منذ بدايته، رفقة قائد المنطقة الخامسة آنذاك محمد العربي بن مهيدي...

هذا الإنحياز إلى مصالي، لم يمنع المحامي بالبقرة من مواصلة دوره، في الدفاع عن المناضلين المعتقلين من الجناحين الجبهوي والمصالي. وفي غضون 1955، زار العاصمة للتشاور مع بعض العناصر القيادية التي وجدت نفسها مثلا في ركب الحاج مصالي، أمثال عبد القادر وقواق وعمار بوجريدة وسيدعلي أداب ... الخ...

بعض عناصر هذه الفئة الواعية المتمرسة بالنضال الوطني ومتطلباته، كانت تدرك جيدا مخاطر الإنقسام بين الجبهة والحركة، فكانت لذلك أميل إلى محاولة التصالح ورأب الصدع بين الفصيلين..

في تلك الأثناء، تصاعدت موجة القمع الإستعماري بالجزائر، لا سيما إثر حصول حكومة الإشتراكي قي مولي على “السلطات الخاصة” في 12 مارس 1956. وما لبثت تلك الموجة العارمة أن طالت المحامين أنفسهم، ما جعل بالبقرة يلتحق بفرنسا بعد 10 أيام من ذلك...

وهناك وجد نفسه وسط محاولة وساطة، ينشطها الشيخان محمد محفوظي ومحمود بوزوزو، كان هذا الثنائي يحاول تزكية “قيادة مصالحه” للحركة الوطنية، من الثلاثي وقواق - بالبقرة - بوزوزو ..

طبعا رفض “الزعيم” مصالي تزكية هذه المحاولة، كما رفض تزكية مساعيها اللاحقة بالتنسيق مع جناح من اتحادية جبهة التحرير بفرنسا والسفارة المصرية بباريس...

جرت هذه المساعي من مايو إلى يوليو 56، وكان هدفها إعداد مشروع بيان، يتضمن تعبير أنصار مصالي عن رغبة الإتحاد مع جبهة التحرير الوطني.

لم تثمر هذه المساعي، لتحفظ جناح من اتحادية الجبهة عليها؛ ولرفضها كذلك من لدن حاشية مصالي الذي مالبث أن ندد بها بشدة في أحد تصريحاته النارية التي لم تستثنها الرئيس جمال عبد الناصر ونظام حكمه..

في أعقاب هذا الفشل، دخل المحامي بالبقرة الصف، تاركا المجال للحاشية المتشددة المحيطة بزعيم الحركة الحاج مصالي، الموجود تحت الإقامة الجبرية، بإحدى جزر الشاطئ الأطلنطي لفرنسا.

مهمة انتحارية بالمغرب

في أكتوبر 1956 حل محمد الصغير بالبقرة بطنجة، بعد سابق اتصال في باريس مع وزير الإقتصاد المغربي عبد الرحيم بوعبيد، الذي يكون شجعه على زيارة المغرب، لإطلاع حكومته على وجهة نظر الحركة المصالية بعين المكان.

وكان بميناء المدينة ملاح على متن باخرة “سيروكو” يدعى محمد بن مصطفى، يقوم بدور حلقة اتصال للحركة؛ فيستقبل مبعوثيها يومين في الشهر، ويساعدهم في أداء المهام التي قدموا من أجلها..

كانت مهمة بالبقرة - المعلنة - تتمثل في فتح مكتب للحركة المصالية بالرباط، وكان يحمل لهذا الغرض رسالة من مصالي إلى السلطان محمد الخامس ... لكن مصدرا آخر يشير إلى انتدابه من الحركة للمشاركة في المشاورات التي كانت تجريها الرباط، تمهيدا لندوة تونس المقرر عقدها في 22 أكتوبر ...

شرع المحامي في اتصالاته بالمدينة، حيث قابل زميله حسن بوكلي والدكتور بومدين بن اسماعيل، فضلا عن مسؤول نقابي محلي في “اتحاد عمال المغرب”.

طبعا علمت مصالح جبهة التحرير بوجوده وبتحركاته، فسارعت باعتقاله...وتم استنطاقه في 25 أكتوبر، وكشف التحقيق معه عن عدة حقائق نذكر منها:

1 - أن الحركة المصالية كانت متواجدة في عدة مدن مغربية، منها الرباط والدار البيضاء وفاس وآرفود...

2 - أن مولاي مرباح أمين عام الحركة مكلف بفتح مكتب لها بتونس، وأنه يعتزم مقابلة الوزير الأول التونسي الحبيب بورقيبة لهذا الغرض... وقبل ذلك تحادث بباريس مع “لامبار” عامل وهران في يوليو الماضي، بحضور المحامي التروتسكي أيف ديشيزال...

3 - أن الحركة التروتسكية الفرنسية ( جناح لامبار) تقدم خدمات جليلة لمصالي وأنصاره، من خلال طبع أختامهم وأدبياتهم، فضلا عن قيام الكاتب الصحفي جان روس بدور الوسيط لدى الحكومة الفرنسية...

4 - أن بن علي مدني - المقيم في برن - هو مسؤول الجناح المسلح للحركة بفرنسا، للتذكير أن العقيد “مارسي” استعمل اسمه في خريف 1958، لكراء سيارة عناصر المخابرات الفرنسية التي حاولت اغتيال ممثل الحكومة المؤقتة في بون المحامي مزيان آيت الحسن..

5 - أن الأمير مولاي الحسن يرفض بوضوح أي اتصال بمصالي، مؤكدا بذلك رهانه على ورقة جبهة التحرير، باعتبارها أكثر حضورا ومصداقية.

وتفيد مصادر جبهة التحرير بالمغرب، أن بالبقرة بعد استنطاقه نقل إلى وجدة، حيث اختفى نهائيا...

وشكل “اختفاء” بالبقرة - بعد “اختفاء” العربي أولبصير قبله ببضعه أشهر - ضربة قاضية، لمحاولات تموقع الحركة المصالية بالمغرب.

لقد خسرت الحركة بذلك “معركة القواعد الخلفية”، علما أن جبهة التحرير كانت سباقة لفتح واختلال هذه القواعد من مصر إلى المغرب مرورا بتونس وليبيا ... ويفسر ذلك إلى حد ما اختناق تنظيماتها المسلحة داخل الجزائر، هذا الإختناق الذي دفع بعضها - على غرار بلونيس- إلى الإرتماء في أحضان جيش الإحتلال...

حاولت الحركة المصالية إثارة ضحية دولية، حول “اختفاء” مبعوثها إلى المغرب، لكن بدون جدوى.. لأن صوتها الخافت مالبث أن غطى عليه تسارع الأحداث التي كان أكثرها من صنع جبهة التحرير الوطني، صاحبة مبادرة فاتح نوفمبر 1954.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)