سكيكدة - A la une

من الجزائر إلى سكيكدة، عندما يصبح السفر قطعة من جهنم


من الجزائر إلى سكيكدة، عندما يصبح السفر قطعة من جهنم
الجزائر (المحور اون لاين) – جاءني خبر وفاة الشاعر مالك بوذيبة، فاتخذت كالعادة قرار السفر فجأة. الساعة الآن الثالثة والربع زوالا. ساعة ونصف لن تكون كافية لأصل من بن عكنون إلى الخروبة. الازدحام هنا مرعبا. لقد يئست من التعود على هذه المدينة الصاخبة، الثائرة، المستعجلة، الراكضة خلف الزمن الهارب منها. قرار سفري اليوم نوع من الجنون حيث لم تمض بعد عشرة أيام على قدومي إلى العاصمة. أسبوعان يكفيان بالنسبة لي لأرتاح من سفر الذهاب حتى أسافر مرة أخرى إيابا.
من حسن حظي أن الطريق لم يكن مزدحما كما توقعت ولم أستغرق أكثر من ساعة للوصول إلى الخروبة. أخذت تذكرتي من يوسف ودخلت إلى قاعة الانتظار. لأول مرة سأكون مضطرة للانتظار ساعة كاملة هنا. كنت قد تعودت على اتخاذ قرار السفر فجأة، وهو ما يجعلني أصل في العادة إلى المحطة قبل انطلاق الحافلة بدقائق لأجد يوسف بانتظاري ليسلمني تذكرة حجزتها هاتفيا ايمانا منا بأن الهاتف قادر على حل أعقد مشاكلنا ولكنه كثيرا ما يخذلنا الجميع يرى أن هوسي بالسفر كل خمسة عشر يوما بين العاصمة وسكيكدة الجنون بعينه. جلست في القاعة وجلست إلى جانبي عجوز في هدوء. نظرت إلي من رأسي حتى قدماي، وبعدما طال صمتي لأني كنت أفكر في طريقة أشغل بها وقتي أخذت العجوز تستفزني الإناث أصبحن مثل الذكور، في زماننا لم تكن المرأة تذهب إلى الطبيب من دون رجل واليوم أصبحت تسافر وحدها ليلا ابتسمت في وجهها ابتسامة صفراء فأكملت: الدولة ربي يهديها، علاه ما يخلوش كل وحدة تدرس في المدينة ديالها؟ التزمت الصمت أمام عفويتها وبساطتها وبقيت هي تتحدث عن أمجاد زمانها إلا أن سمعت نداء عون الأمن سكيكدة على السادسة..
* المقاعد الأولى للمرأة دائما
الكل مستعجل للسفر إلا أنا. أخذت تذكرتي وصعدت ببطء إلى الحافلة. منذ البداية يوحي إليك صاحب الحافلة أنك أنثى. ويصر على أن تجلس النساء في المقاعد الأولى بغض النظر عن رقم التذكرة الذي تحمله، وإن كان يضطر في أغلب الأحيان لمطالبة شخص بتغيير مكانه من أجل امرأة. ويسعدك تقدير صاحب الحافلة لك مع أنك تعلمين أن جلوسك في المقاعد الأولى ليس لأنك امرأة بل لأنك أنثى هشة كالفراشة تحتاج دائما إلى وصي من عالم الرجال. ولأنني أنثى اختار لي يوسف المقعد الأول وطلب مني أن لا أسمح لأحد بالجلوس إلى جانبي. كأنه قرأ رغبتي في الكتابة على وجهي. كانت ثيابي مبللة وسفر طويل متعب ينتظرني، والكثير من الدعاء في رأسي كل الذين أعرفهم يصرون أن أدعوا لهم بأسمائهم في سفري وثلاثة أكياس من الشيبس في حقيبتي وأنا أفكر في الكتابة.
* “لمحاجب” في محطات البنزين
انطلقت الحافلة عند السادسة مساء. كان الجو ممطرا في يوم ربيعي، والأماكن الخضراء تبدوا أجمل عندما يغيم الجو ويسقط المطر. الطريق حتى الآن تبدوا مفتوحة والزحمة قليلة والأهم أن الحافلة غير مكتظة بالركاب ولا أحد يجلس إلى جابني، لا أحد يزعجني بتطفله وإن كنت أشعر بالعيون على اليسار تحاول استراق النظر إلي. سأكتب بقلم أبيض تفاصيل هذه الرحلة. لم يكن يعنيني شكل القلم الذي أكتب به قبل الآن، ربما لأني لم أكتب قبل اليوم بقلم ليس قلمي. كنت أشعر بالألم في هذه العودة. أشعر أن مدينة سكيكدة حزينة وكأني ذاهبة لتعزيتها في فقدانها لشاعرها مالك بوذيبة الذي كنت ألتقيه في إذاعة سكيكدة فيستقبلني بابتسامة عريضة عرف بها. هل أنا ذاهبة لهدا السبب حقا؟ محاجب قالها طفل في العاشرة أو الحادي عشرة من العمر. صعد إلى الحافلة عند توقفها في محطة البنزين. لم أكن أعرف أن الأطفال موجودين على السابعة مساء تحت الأمطار وفي محطات البنزين ليقدموا محاجب وقد تعودت على التقائهم بمحطات الحافلات نهارا، يبيعون الجرائد والشكولاطة وقارورات المياه المعدنية.
* ساعة صمت في الأخضرية
لا شيء يظهر من المدينة غير أضواء اصطناعية غير قادرة حتى على تحديد ملامحها. الاعلانات التجارية أكثر وضوح منها. الليل يقضي عليها، يختصرها والطريق السريع باتجاه الشرق يعجل بذلك. لكن الطريق لن تنتهي قبل 8 ساعات كاملة. ما الذي سأكتبه خلال ثماني ساعات كاملة! سأكتب حتى سينتهي حبر القلم، وأنام حتى تزول رغبتي في النوم، وأتفرج في ضجر على نفس الأشرطة التي يضعها السائق. أشرطة نكت عبد القادر سيكتار وسلسلة ناس ملاح سيتي وربما عمارة الحاج لخضر… لأن الفكاهة وحدها قد تساعدنا على تحمل هذا السفر وستنتهي أكياس الشيبس والأدعية التي أحفظها والرحلة لن تنتهي. خاصة وقد وصلنا إلى منطقة الازدحام. وبدأ الركاب في الاستغفار والتنهد، ومن ارتفع ضغط دمه ومن اضطربت نسبة السكر لديه من شدة الانتظار. من يحاول أن ينام لا يمكنه أن يعيد كرسيه قليلا للخلف لأن من يجلس خلفه سيحتج ويتعلل بالمقاعد الضيقة…حتى الآن ساعة كاملة مضت والحافلة لم تتقدم خطوة واحدة وكأنها ساعة صمت في جنازة. إننا بلا شك لمن يعرف الطريق ولمن يسافر لأول مرة في الأخضرية. لا عجب أن نقضي أربع ساعات من الأخضرية إلى البويرة. سمعت أحدهم يحدث صديقه أن الطريق السيار الرابط بين الأخضرية والبويرة سيفتح بداية الأسبوع ولن نستغرق بعدها أكثر من 20 دقيقة في هذا المكان. لم يعزيني كلامه مطلقا وقد بدأت أفهم أن الرحلة لن تنتهي بعد ثمان ساعات مطلقا وأن الوقت لن يمر بسهولة.
* بداية التوتر وفقدان الأعصاب
كنت أفكر في وقت وصولي، عندما تقدم شاب من المقاعد الخلفية وجلس بجانب فتاة كانت تجلس وحدها خلفي. ومع أنها لم تقل شيء حتى تدخل رجل آخر يجلس مرتاحا في المقاعد الأولى مع زوجته وأخذ يحتج بدل الفتاة وكأنها بكماء أو لأنها دائما امرأة. وبدأت الملاسنات بين الرجل الذي يدعي الغيرة على الفتاة والشاب الذي يعتبر تدخل الرجل اهانة له باعتباره أقل رجولة وغيرة منه على الفتاة. وكاد ينشب خلاف بين الاثنين إن لم يتدخل صاحب الحافلة لتهدئتهما. الكل سئم، الكل يضع سماعة هاتفه في أذنيه. منهم من يعيد أغنية واحدة ومنهم من تنتهي كل الأغاني التي في هاتفه والطريق لا تنتهي.
* سندويتش برائحة البنزين
عندما خرجنا من الأخضرية كانت الساعة 11 ليلا. فهمت أن رحلتي لن تنتهي قبل الخامسة صباحا. البرد كبير في الخارج والساعة الآن الواحدة إلا ربع. توقف سائق الحافلة عند مطعم ونزل الركاب كلهم تقريبا لشراء سندويتشات شواء تنبعث منها رائحة البنزين أكثر من رائحة اللحم. وحبات موز نصفها متعفن. لا شيء يجبر الناس لرمي نقودهم في هذه المزبلة من أجل سندويش كهذا غير قسوة السفر وبرد الجو. إنها جهنم بعينها. أصحاب المطاعم هنا لا ينظرون إلى وجهك اطلاقا. ويخيل إليك أنهم آلات تعمل دون انقطاع. تقلب قطع اللحم وترمي به في قطع من الخبر وتسلمه إلى يد المسافر. إلى نفس اليد التي أخذوا منها التذكرة. يتعاملون مع الأيادي أكثر من الوجوه. 250 دينار مقابل سندويش بلحم مشوي على نار مشتعلة بالبنزين. كنت أطل من النافذة، فأرى من يأخذ سيجارة ومن يشرب قهوة ومن هو متعود على السفر يشتري بذكاء مأكولات معلبة ممثلة أساسا في قطع من الجبن، قارورة عصير وعلبة ياغورت. هؤلاء الذين جربوا ألم البطون بسبب السندويشات. أما الأكثر خبرة فهم يكتفون غالبا بقارورة ماء.
* 11 ساعة من أجل 550 كلم
بعد ما يسميه أصحاب الحافلات توقف للعشاء، بدأ العد التنازلي. الكل فقد قدرته على المقاومة. منهم من فقد وعيه فلا هو نائم ولا هو مستيقظ ومنهم من يتنفس بصعوبة ومنهم من لا يزيح عينيه عن عقارب الساعة…أما أنا فأمسك بهاتفي، أنتظر مكالمة هاتفية من أبي يسألني عن مكاني حتى ينتظرني. قلت لأبي سأصل عند الخامسة صباحا سألتي كيف نقضي 11 ساعة من العاصمة إلى سكيكدة ولا المسافة بينهما أكثر من 550 كلم. أجبته: لأننا نقضي قطعة من جهنم.
يرجى ذكر المصدر في حال نقل الخبر من هذا الموقع


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)