الجزائر

واسيني الأعرج يستفز حواس الناقد في "سوناتا لأشباح القدس"


لا ينفكُّ الناقد الروائي الحصيف يؤكّد بين فترة وأخرى على أن الدرس النقدي يجب أن يتوجه بالدرجة الأولى نحو كيفية اشتغال المبدع بعناصر السرد الروائي المختلفة، مبتعداً عن محاكمة النص على أساس رؤاه الفكرية. غير أنَّ المرء إذ يقرأ رواية "سوناتا لأشباح القدس" للروائي الجزائري واسيني الأعرج يعود إليه السؤال القديم المتجدّد حول علاقة الأدب بالأيديولوجية، ويستنفر حواس الناقد، ليسأله بجرأة: هل تستيطع أن تكون حيادياً تجاه إيديولوجية روائية تخدش، في بعض سياقاتها، جرحك الوطني وتعبث به، على الرغم من أنها تقدّم في حلة روائية قشيبة، لا تفتقر إلى انسجام بديع لمكوناتها السردية؟
تحكي رواية (سوناتا لأشباح القدس) حكاية مي: الفنانة التشكيلية الفلسطينية التي غادرت فلسطين، وهي ابنة ثماني سنوات، نحو أمريكا حيث أصيبت في نهاية حياتها بالسرطان، فأوصت قبل وفاتها أن تُحرَق وأن يُذَرَّ رمادها فوق نهر الأردنّ، وفي حارات القدس، وأن تدفن عظامها في أمريكا حيث يقيم ابنها يوبا، ليجد قبراً يضع عليه ورداً كلّ ثلاثاء..
غير أن الرواية لا تستسلم لزمن حكايتها التقليدي، فتعبث عبثاً لذيذاً في ترتيبها تقديماً وتأخيراً، إذ تبدأ بوصايا الأم مي إلى ابنها يوبا الذي انتهى من تنفيذ وصية أمه، وعاد إلى بيته، ليتذكرها، وينبش ذكرياتها عبر كراستها النيلية، ومن ثمّ يعود السرد إلى زمنه الحاضر الذي يحكي حكاية الأثر الذي خلفته مي برحيلها.
وتمتاز الرواية بقدرة فائقة على استخدام لغة شاعرية بديعة لا تخدشها الذهنية إلا في حدود ضيقة، حين يتطلب الأمر توثيقاً تأريخياً، جَهَدَ الكاتب في أن يدخله في روايته عدة مرات، كما تمتاز بحسّ نقدي مرهف تجاه الفني والموسيقى، وتعرض هذين المجالين معلومات ثرة، قد ترتبك غير المتخصصين، إضافة إلى أنها قد تربك الرواية، ومنطقها الفني في أحيان قليلة.
وعلى رغم من استخدام الكاتب ما أتيح له من خلال خبرته واطلاعه من فنون السرد لتقديم رواية مميزة، إلا أنّ القارئ يجد نفسه أمام مجموعة من الأسئلة التي تثيرها الرواية حول الوطن والهوية، إذ تبدومي، وغيرها من الشخصيات مترجحة بين الوطن والمنفى، وبين التفاؤل والتشاؤم، وبين التمرد والخضوع، إلا أنها تقدّم في هذه الرواية سياقات مختلفة أقل ما يقال فيها أنها تثير الدهشة.
يذكر يوبا، ابن مي، في بداية الرواية، تحت عنوان "وصايا أمي" أنه لم ير القدس في حياته إلا ثلاث مرات، وسرعان ما يستنتج القارئ أنّ زيارتيه الأوليين كانتا عبر خياله؛ فالزيارة الأولى كانت عندما جرّه جدّه من أمه (سيدي بومدين لمغيث الأندلسي) نحوحيّ المغاربة في عمق القدس. والزيارة الثانية كانت في ميلانوخلال عزفه السوناتا التي استعصت عليه زمناً طويلاً، إذ رأى أمَّه مي، وهي تعبر شوارع القدس، وتدور في حاراتها، وتصيح مثل أرخميدس: وجدتها.. وجدتها عندما تكتشف أنَّ ألوان القدس تتجمّع كلّها في جناحي فراشة.
هاتان الزيارتان للقدس تتمان في خيال يوبا فقط، لأنّ جدّه توفي منذ زمن بعيد، ولأن أمه لم تزر القدس منذ غادرتها، أمّا المرّة الثالثة فقد كانت حقيقية إذ زار القدس محمّلاً بثلاث جرات رخامية صغيرة مليئة برماد أمه المعجون بنوار البنفسج البرّي، لينثره فوق أرض الوطن التي استيقظت في ذاكرتها.
ويستطيع القارئ أن يلمس بكثير من البساطة طغيان إيقاع الفقد على صفحات الرواية، وهو فقدٌ يتجلى في صورته الأبهى عبر الشوق الموجه في أغلبه نحووطن سُرِقَ من مي، مثلما سُرقت أحلام الطفولة. فعندما ينثر يوبا الابن الجرة الأولى من رماد أمّه فوق نهر الأردن، يقرأ خطاب أمه المكلّل بالشوق والألم إلى النهر، وإذ ينثر الجرّة الثانية فوق القبور تخليداً لذكرى يوسف، يعبّر عن ارتداد موغل في الشوق نحوأيام الطفولة الأولى، وإذ يضع رماد الجرة الثالثة عند رأس قبر جدّته ميرا (والدة مي) فإنه يفتح جرح الشوق على نافذة الانتماء الذي حاول يوسف الذي ما زال حياً يحرس المقبرة، أن يحافظ عليه من خلال إعادة كتابة الأسماء على شواهد القبور بالطباشير، حتى لا تمحوها الريح والأيام.
إنَّ الشوق الذي جسدته مي بعد مماتها تجاه الأرض، لم تتخلَّ عنه، أولم يتخلَّ عنها في حياتها، إذ توجّه نحو القدس سماء وأرضاً وبيوتاً وفراشات، وكان روحها المبدع، وهي الفنانة التشكيلية، يستشيط غضباً لأنها لم تستطع أن تنجز لون ماء النافورة في حديقتها في القدس، أو لأنها لم تجد اللون الحائل لسمائها، أوالألوان الداكنة لسوق القطانين. وتشعر بالفرح إذ تتحدث عن فراشات القدس: حيث مهرجان ألوان من فراشات القدس التي تدفع عنها ألم الفقدان، وتعيش أسعد لحظات حياتها حين تبتدع لوناً جديداً، تسميه فراشات القدس، ذلك اللون الذي أضحى رفيقها في غربة الروح:
"أصبح فراشات القدس لونها الأول الذي يندمج مع إشعاعات الشمس وهي تنهض من وراء بحيرة هودسون أويدخل في تجاويف سماء تبحث عن فضائها وألوانها" ص84.
في هذه الغربة تؤكد مي أن "أكبر محرقة يعيشها المرء هي أن تُسرَقَ منه أرضه، ويرمى على حواف المبهم" ص138، وتشكو من أن الناس لا يدرون أن المرء يعود إلى وطنه ليعيش فيه جزءاً جميلاً من العمر، ذلك الوطن الذي تذكرها به أوراق أشجار البلاطان في أمريكا حيث لونه الآجري قريب من لون القدس وحيطانها وتربتها، لذلك فهي إذ تكون في نيويورك تشمُّ، خارج الفضاء الجغرافي، رائحة فلافل أبونجيب في القدس:
"لم أكن أرى نيويورك، ولكنني كنت منغمسة في أحياء القدس القديمة (...) كان يأتيني واضحاً صوت عمي أبو نجيب، وهو يمدح فلافله وساندويتشاته التي يملؤها بها: يا الله يا فلافل! طعم الغني والفقير، الصغير والكبير" ص148
وهي تقرأ الإصحاح الرابع والعشرين من الكتاب المقدّس، لأن فيه ذكراً لجبل الزيتون، حتى إن ابنها يوبا يشمُّ رائحة الأحياء المقدسية، وحارة الخبازين فيها، إذ يفتح الكراسة النيلية لأول مرة، لأن تلك الكراسة، وفقاً لما تطرحه الرواية، أكثر من مجرد كراسة عادية، إنها الخيط الوحيد الذي يربط مي بمدينتها الأولى، والذي يربطها بذكرى يوسف الذي كانت تنوي أن تخصص له مساحات الأوراق فيها، لذلك ضمتها إلى صدرها عند خروجها من القدس، إلى بيروت، ثم إلى أمريكا:
"الكراسة الأخيرة التي ضممتها إلى صدري، وأنا أغادر بيت طانت جينا لنستقلّ أنا وخالي الأكبر أبوشادي القطار ثمّ السيّارة باتجاه بيروت. كانت رحلة طويلة ومتعبة، ولكني لم أنم إلا وكراستي على صدري". ص ص 186-187.
لقد كانت ذكرى الوطن الأول تسكن قلب مي، لذلك أحسّت بفطرتها الطفولية عندما غادرت بيروت بحراً إلى أمريكا أن رائحة المنفى تزكم أنفها، تلك الرائحة التي تشبه رائحة "رماد الحرائق التي تأكل شجر العرعار، ورائحة الخميرة والعجائن القديمة، والورق الأصفر المنقوع في الماء، ورائحة الفئران الصغيرة" ص195.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)