الجزائر

ماذا نخشى من الانحياز لفلسطين؟




ماذا نخشى من الانحياز لفلسطين؟
في أواخر الثمانينيات، وفي إحدى قواعد الفدائيين الفلسطينيين جنوب لبنان، كان كثير من شباب العرب والمسلمين يأخذون أماكنهم بشرف في خنادق القتال مع إخوانهم في العروبة والإسلام.. وكان من هؤلاء يمنيون كثر تميزوا ببسالتهم وطيبتهم وصدق انتمائهم وولائهم للقدس وفلسطين.. ذات يوم تأخر أحدهم عن العودة إلى القاعدة بعد أن خرج لشراء بعض حاجياته فنهره المسؤول بغلظة وتعسّف فانتصب اليمني وأدى التحية العسكرية قائلا: "لقد أرسلتني أمي إلى هنا لا لكي أقضي حاجاتي إنما لأحرر القدس أو أقضي شهيدا".. كان الانحياز إلى فلسطين مقدَّما على الكرامة الشخصية والانتماء الحزبي والثقافي والقومي...لكن الانحياز لفلسطين اليوم أصبح في دائرة المشاعر والاماني التي لا تصمد أمام الاهتزاز كلما تعرض صاحبها لموقف ايديولوجي أو حزبي، فهي على اللسان ترنيمة وفي الهتافات تبحّ الحناجر، ولعل ما كُتب عنها في كتب التاريخ المعاصر وأسفار الأدب والتحليل والشعر لم ينله أي موضوع حديث أو قديم، ولقد أصبحت قضية عربية وإسلامية بل وإنسانية بامتياز، وظن كثيرون أن تجاوزها يعني مباشرة السقوط والخروج من الانتماءات الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية.. وقد تأكد هذا عدة مرات؛ فكم من زعيم عربي قُتل أو جرى على حكمه انقلابٌ أو خرجت المظاهرات لخلعه عندما أبدى تهاونا في مواجهة العدوان الصهيوني على فلسطين.. لقد كانت معيارا واضحا في تحديد الفضيلة من الخطيئة.لكننا الآن نواجه حالة عجيبة في انقلاب الأفهام وتغيير المبررات والركون الى منطق جديد في التعامل مع القضية الفلسطينية.. فلقد انسحب قسم كبير من المثقفين العرب والإسلاميين من مرجعية موقفهم المبدئي الثابت واستبدلوا المعيار لتمرير مواقف تمليها الولاءات الايديولوجية والسياسية والثقافية، ويُقدَّم لهذه التراجعات والانسحابات بمنطق براجماتي بحت يجعل من قضية فلسطين شيئا تجري عليه المساومة.يواجه الفلسطينيون في غالبية الدول العربية إجراءات خاصة للتضييق والمنع من العمل وحق الإقامة والمساواة بالبشر.. ويقف النظام العربي أمام كوارث فلسطين، وليس كارثة واحدة، جامدا في أحسن أحواله أو مشاركا للمخطط الصهيوني أو متهيِّبا عن تقديم أي عون للفلسطينيين ظنا منه أن هذا يفسد رؤية الكيان الصهيوني نحوه ويجلب غضب الأمريكان! يبدو أن موجة العواطف المتأجِّجة نحو فلسطين تولدت في مرحلة التحرر الوطني التي اجتاحت البلاد العربية، فكان التفاعل معها منبعثا من نفس المشاعر الوطنية التحريرية، وكان الوقوف معها لازمة للموقف الوطني في كل قطر، وبمجرد حدوث المصادمات الحقيقية لواقع الكيان الصهيوني وارتباطاته الدولية بدأ الانسحاب شيئا فشيئا من دائرة التفاعل مع القضية الفلسطينية.. حتى عُدنا نتابع هرولة كثير من الانظمة والأحزاب والقوى نحو الكيان الصهيوني الى درجة غير مفهومة ولا مبررة حتى بطريقة الحسابات البراجماتية، فما الذي يدفع مثلا رئيس "حزب النور" السلفي في مصر الى الالتقاء بليفني وزيرة خارجية العدو في أمريكا والمكوث معها في جلسة مغلقة لساعات؟ وما الذي يدفع النظام العربي جملة -حتى ذلك الذي ليس له علاقة جوار بفلسطين أو الكيان الصهيوني- إلى التنسيق معه في التجارة والمعلومات والسياسة...؟!الحديث هنا ليس بالجملة ولا بالشعار إنما بوقائع حقيقية، فمثلا يواجه الفلسطينيون في غالبية الدول العربية إجراءات خاصة للتضييق والمنع من العمل وحق الإقامة والمساواة بالبشر.. ويقف النظام العربي أمام كوارث فلسطين، وليس كارثة واحدة، جامدا في أحسن أحواله أو مشاركا للمخطط الصهيوني أو متهيِّبا عن تقديم أي عون للفلسطينيين ظنا منه أن هذا يفسد رؤية الكيان الصهيوني نحوه ويجلب غضب الأمريكان!في لبنان أكثر من 700 ألف فلسطيني لم يبق منهم إلا 300 ألف تحت طائلة السلوكات التمييزية البشعة؛ فهم ممنوعون من مئة مهنة تبدأ من مسح الأحذية إلى الطبيب وأستاذ الجامعة... وقد تعرضوا لمجازر ومذابح بأيد عربية لبنانية من قبل "الكتائب" و"حركة أمل" والجيش اللبناني فكانت عناوين حياتهم صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة ونهر البارد.. وعندما يطرح السؤال على المكوِّنات اللبنانية جميعها تقف عاجزة عن فعل شيء أو تقديم مبرر لما يتم ممارسته نحو الفلسطينيين، فمن اللبنانيين من يخشى من التواجد الفلسطيني لأنه يُحدث خللا طائفيا في البلد لأن الفلسطينيين مسلمون، ومنهم من يخشى اختلال التوزيعة الطائفية لصالح السنة كون الفلسطينيين سنة، ومنهم من يتحرك بتوجيه غربي للقضاء على تواجد المخيمات لأنها عنوان القضية الفلسطينية والمذكِّرة دوما بحق العودة، ومنهم من يرى في الوجود الفلسطيني قلقا دائما لانهم حالة مرفوضة من قبل النظام الدولي والكيان الصهيوني.. فأجمع اللبنانيون من زعماء أحزاب وطوائف، ومن منطلقات طائفية وسياسية، على ضرورة الضغط على الفلسطينيين وعدم فسح المجال لهم للتحرك والعيش الإنساني، ولا نتحدث هنا عن حقهم في المقاومة لاسترداد أرضهم، وهذا الكلام تُستثنى منه زعامات وطنية لبنانية محترمة دافعت عن حق الفلسطينيين في الحياة والتواجد المؤقت في لبنان.الحديث عن لبنان هو نفسه الحديث عن العراق عندما استولى الطائفيون المدجّجون بالرذيلة السياسية على مقاليد الامور في العراق.. كانت الخطوة الأولى لتحركهم في بغداد أن قصفوا حي البلديات الذي آوى اليه الفلسطينيون في بغداد وتم تصفية كثير من الشخصيات الفلسطينية وتهجير البقية إلى البرازيل وسواها من بلاد الفرنجة وبني الأصفر.. كان أولئك الطائفيون في العراق يدركون أنهم يقدِّمون عربون ثقة للأمريكان والصهاينة بترحيلهم وقتلهم الفلسطينيين.والحديث عن العراق هو نفسه الحديث عن سورية.. عندما اندلعت حرب الفتنة في سورية كانت احد أهدافها غير المعلنة تهجير المخيَّمات الفلسطينية وطرد اكبر المخيمات الفلسطينية اليرموك خارج سوريا، فمن المعروف ان الكتلة الفلسطينية في سورية تمتعت بحقوق قريبة من حقوق المواطنين السوريين وهي البلد الاستثناء في هذا الصدد، لذلك كانت هذه الكتلة قاعدة مهمة لتنامي الوعي والفعل الفلسطيني وكانت قادرة أن تمثل قاعدة ارتكاز لمشروع المقاومة باستمرار فكانت المؤامرة عليها إلى حد جعل مخيم اليرموك أطلالا وتهجير ساكنيه.تتم الآن عملية طي للقضية الفلسطينية صفحة صفحة عمليا وإبراز قضايا اخرى، لكنهم يمكرون والله من ورائهم محيط، فلن يترك فلسطين باقصاها واهلها المرابطين بلا حفظ وقد كتب لها البركة، ولكنها الامتحان والابتلاء الكبير للكشف عن حقيقة كل الرؤى والايديولوجيات والمفاهيم، فهنيئا لمن زُحزح عن الجهل والتخلف والعصبيات الجاهلية الى نور الوعي واليقين ونور القدس.. وما جرى في الكويت لم يكن أقلّ مأساوية؛ فبعد طرد جيوش التحالف الدولي للجيش العراقي من الكويت في بداية عام 1991، تم ترحيل مئات الآلاف من الفلسطينيين خارج الكويت والقاؤهم في الأردن فاقدي حقوقهم المالية ومقتنياتهم بعد أن مكثوا هناك زمنا طويلا يعمِّرون البلد ويعلِّمون أبناءه ويخلصون له، وكانوا يمثلون قاعدة إمداد حقيقي للثور ة الفلسطينية بكل احزابها.هذه بعض العناوين الكثيرة التي تكشف عن عميق الفراغ النفسي والفكري والعقائدي نحو فلسطين وأهلها.. وهنا لابد من طرح السؤال من جديد: هل حقيقة يقف العرب والمسلمون مع فلسطين على اعتبار أنها قضيتهم المقدسة والمباركة والرئيسية والأولى؟ لا أعتقد أن هناك عاقلا ومنصفا يوافق على الإجابة بنعم.. فهل وقف النظام العربي ضد الكيان الصهيوني كما وقف ضد بعضه البعض؟ وهل أنفق في فلسطين من أموال الأمة وأبنائها ما يساوي جزءا مما أنفق في حروبه ضد دول عربية وشعوب عربية؟ هل ضاقت بلاد العرب والمسلمين عن استيعاب عشرات آلاف العمال والموظفين المتخصصين من أبناء غزة ومخيمات لبنان لامتصاص الفقر والبطالة القاتلة من صفوفهم؟لقد وصل الأمر بنا كعرب ومسلمين إلى أن نخشى ليس فقط من اتخاذ موقف عملي لصالح فلسطين، بل حتى من مجرد إعلان موقف كلامي صريح.. ويتحجَّج بعضنا بأن الفلسطينيين قبلوا بالتسوية واعترفوا بالكيان الصهيوني فلن يكون هذا البعض ملكيا أكثر من الملك حسب ادعائهم، ومع كل التناقضات في هذا الكلام وزيفه وبطلانه إلا أنه يعبِّر عن حقيقة الفراغ الفكري والثقافي والنفسي والعقائدي الذي يكتسح شرائح واسعة من نخب الأمة السياسية والثقافية بشتى توجهاتها الايديولوجية..تتم الآن عملية طي للقضية الفلسطينية صفحة صفحة عمليا وإبراز قضايا أخرى، لكنهم يمكرون والله من ورائهم محيط، فلن يترك فلسطين بأقصاها وأهلها المرابطين بلا حفظ وقد كتب لها البركة، ولكنها الامتحان والابتلاء الكبير للكشف عن حقيقة كل الرؤى والايديولوجيات والمفاهيم، فهنيئا لمن زُحزح عن الجهل والتخلف والعصبيات الجاهلية إلى نور الوعي واليقين ونور القدس.. تولانا الله برحمته.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)