الجزائر

صوت الموسيقى



صوت الموسيقى
نشرت صحيفة ”ذا غارديان” البريطانية قبل يومين على موقعها الإلكتروني فيلم فيديو قصيرا يُظهر عازفي كمان (رجلا وامرأة) يعزفان مقطوعة كلاسيكية لجمهور مؤلّف من أربعة فيلة.خلفية المناسبة أن الفرقة الموسيقية التي ينتمي إليها العازفون ستقوم بتقديم حفل موسيقي في موقع قريب، وقد خشيت أن يأتي رد فعل الفيلة على صوت الموسيقى سلبيًا، أي أن تزعج تلك الفيلة التي قدّر لها أن تعيش في الحظيرة القريبة. لذلك ارتأت انتداب هذين العازفين للعب الكمان تمهيدًا وتعريفًا لتلك الحيوانات الرائعة في كل شيء حتى لا تفاجأ فيما بعد.هذا وحده يظهر عناية مثالية يتمنّى البعض منا لو تقع بين البشر. لكن ما كان مفاجئًا لهذين العازفين ومحببًا لي، على الأقل، هو ذلك التجاوب الذي أبدته الفيلة حيال الموسيقى. ليس أنها لم تنزعج فحسب بل رقصت أيضًا.على أنغام بيتهوفن أو سواه تمايلت الفيلة (بعضها أكثر من بعض لكن هذا لا يهم) تمامًا كما يهز الإنسان رأسه وهو يستمع إلى مقطوعة أو أغنية تمس وجدانه. رفعت خراطيمها كما يرفع الواحد منا أصبعه أو يده ليلوّح بهما للتدليل على انسجامه. ليس للحظات ولا حتى لدقيقة أو دقيقتين، بل لكل وقت التصوير (نحو ثلاث دقائق ونصف).ماذا يقول لنا ذلك؟يقول إن البشر ليسوا الوحيدين الذين يستجيبون للموسيقى الملهمة والوجدانية على نحو يؤثر في عواطفهم كما في حواسهم، فتستجيب لرقي العمل الفني وتتجاوب معه لحد الاندماج، بل هناك الفيلة أيضًا، من بين المخلوقات الكبيرة في حياتنا اليوم.طبعًا لا ننتظر من النمر أو الذئب أو التمساح أن يتجاوب معها، لأن هذه كواسر ضارية ترى الإنسان ديكًا يمشي على قدمين، لكن الفيل ليس وحشًا بل مخلوقًا ميّزه الله تعالى بحسنات وصفات كثيرة جاعلاً منه أداة مفيدة لشعوب كثيرة عبر التاريخ، ومنحه ذاكرة يُستشهد بها. الآن نكتشف أنه يقدر الموسيقى ويتجاوب معها.ليس الوحيد بين الحيوانات من يفعل ذلك، فبعض الطيور تتجاوب على هذا النحو، وكذلك بعض الخيول أو كلها، إذا ما صرف المدّرب وقتًا على ذلك. وحتى الكلاب تعوي عواء طويلاً واحدًا حيال سماعها صوت الموسيقى، كما لو كانت تحاول الاشتراك في العزف من دون أن تعلم طبعًا أن عزفها نشاز.والحال ذاتها أمام أعمال فنية مختلفة.طبعًا الفيلة لن يكون لديها رد فعل ما حيال فيلم سينمائي لفدريكو فيلليني أو حيال لوحة مرسومة بيد بيكاسو أو نص مسرحي من كتابة ويليام شكسبير. الإنسان يستطيع. العمل الفني في مثل هذه الحالة، أيما كان نوع هذا العمل، يشبه سهمًا يطلقه المبدع صوب المتلقي فيصيبه في القلب وفي البال من دون ضرر. يمنح حياته الحيوية التي تنشدها حواسه ومداركه. يرفع من أحاسيسه إذا ما كان حديث العهد مع الفن، ويصونها إذا ما كان ذواقًا فنيًا معتادًا.منذ بدء الخليقة سمع الإنسان أصوات سواه من المخلوقات. تآلف معها. لاحقًا حاول تقليدها. ابتكر آلات العزف، ولأنها باتت موجودة حاول التأليف. لأنه يملك يدا، مدّها ليرسم، ولأنه أحب التجسيد قام فسرد الحكايات ومثّل، ثم واصل اكتشاف باقي الفنون وطوّرها لما نعرفه اليوم.تلك الفيلة التي كانت ترقص انسجاما كانت تتفاعل حيال منتج تسمعه. أعينها كانت ترى، من قفصها شخصين يقفان يحركان أيديهما فيصدر عنها صوت رقيق دافئ وجميل. صوت ربما كانت بحاجة إليه كحاجة كل منا لأن يسمع ويرى جمالاً مشابهًا كل يوم.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)