الجزائر

حتى لا يتحول الساحل إلى أفغانستان جديدة



حتى لا يتحول الساحل إلى أفغانستان جديدة
عندما كانت الجزائر تقف بمفردها تعارض تدويل الأزمة الليبية وتحذر من التدخل العسكري، لم يكن ذلك بدافع الوقوف إلى جانب الزعيم الراحل معمر القذافي، أو برغبة منها في إجهاض الثورة الشعبية المناهضة له، وإنما كان من منطلق إدراكها العميق بأن أمن المنطقة واحد مترابط، واهتزازه في أي دولة سيزلزل الجوار كله...
لقد بحّ صوت الجزائر من كثرة ما نبّهت وأثنت عن اللجوء إلى خيار القوة، لكن أحدا لم يبال بتخوفاتها أو إستمع لصوتها طبعا فالضجيج الذي كان يحدثه دعاة خيار الحسم العسكري للتخلص من القذافي غطّى على كل الأصوات الهادئة العاقلة، وانتهت الأزمة، كما يعلم الجميع، بتدخل مسلّح تولاه ''الناتو'' الذي عاد إلى قواعده سالما غانما بعد أن أدّى مهمته على أكمل وجه دون أن يلتفت هو أو من حرّكه وموّله إلى القنابل الموقوتة التي تركها وراءه سواء داخل ليبيا أو في المنطقة المجاورة بأكملها، والتي أخذت تنفجر الواحدة تلو الأخرى في شكل مواجهات قبلية مستمرة بين الليبيين، وفي شكل مساعي ومخططات لتقسيم الأرض الليبية تحت عنوان إقامة الفدرالية، وامتدّ الخطر الأكبر لهذه القنابل ليهدد أمن الجوار من خلال تحوّل دولة مالي إلى بقعة توتر ومركز خطر كبير بعد أن إستقطبت أتباع وقوات القذافي وسلاحهم المهرّب، والمجموعات الإسلامية المسلحة التي تعززت صفوفها بهؤلاء المقاتلين وبعدتهم الثقيلة المتطورة، إضافة إلى المجموعات الإجرامية والانفصاليين التوارق الذين إستغلوا الوضع الجديد لينسفوا الوحدة الترابية لمالي ويقتطعوا ثلث مساحته ويستأثروا بالشمال ويعلنوا قيام دولتهم المستقلة التي لم يعترف بها أحد لحسن الحظ.
وقد أصبح شمال مالي بفعل هذه المستجدات الخطيرة مصدرا للقلاقل والمخاطر والتحديات الأمنية، خاصة بالنسبة للجزائر التي وجدت نفسها أول المتضررين والمستهدفين من المجموعات الإسلامية المسلحة التي أصبحت تهيمن على شمال مالي بعد أن سحبت البساط من تحت أقدام الأزواد، حيث شنّت هجوما على مقر قيادة الدرك الوطني بتمنراست في مارس الماضي، ثم اختطفت دبلوماسيين من مقر القنصلية الجزائرية بمدينة غاو في 15 أفريل الماضي، قصد مقايضتهم بالإفراج عن معتقلين جهاديين في السجون الجزائرية وبفدية لا تقل عن 15 مليون أورو، وانتهت قبل أيام بمهاجمة مقر قيادة الدرك بورقلة وهي تهدد وتتوعّد بضربات واعتداءات أشدّ إيلاما في حال ما تقرّر شن أي تدخل عسكري لاستعادة دولة مالي سلطتها على جزئها الشمالي.
الجزائر لم تكن تتحدث من فراغ لما عارضت بشدة خيار القوّة للإطاحة بالقائد الليبي الراحل، لأنها كانت تدرك مسبقا تبعاته، كما تعرف أشدّ المعرفة نقمة المجموعات الإرهابية عليها والتي لن تترك أي فرصة للانتقام من الجزائر بعد الذي تكبّدته من خسائر على يد قوّاتها طول السنوات الماضية.
ومن هذا المنطلق تعارض الجزائر بشدّة وبأعلى صوتها أي تدخل عسكري لإجهاض الحركة الانفصالية في شمال مالي ولمواجهة وردّ الممارسات القمعية التي ترتكبها المجموعات المسلحة، وتصرّ على الخيار السياسي السلمي، وهي تتحرك في كل الاتجاهات لإجهاض المسعى الذي تقوده ظاهريا المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) لإرسال قوات إلى مالي، وباطنيا فرنسا التي تتمسك بنفوذها في المنطقة وتصرّ على مجابهة أي منافس جديد وهم كُثُرٌ يتزاحمون على بسط أقدامهم في هذه المنطقة الاستراتيجية تتقدمهم أمريكا طبعا...
وتبدو الرؤية الجزائرية للوضع الأمني في مالي والمنطقة والحلّ الذي تقترحه، الأكثر واقعية والأقل خسائر وتؤيده العديد من الجهات، والمحللين والكتّاب الذين يلقون باللائمة على ما يشهده الساحل من توتر إلى التدخل العسكري في ليبيا والذي تمّ دون الانتباه إلى آثاره وانعكاساته المدمّرة على الجوار.
ومن بين الكتابات التي تعزز الموقف الجزائري المَقَال الذي نشرته مؤخرا صحيفة (نيويورك تايمز) للكاتب الأمريكي المشهور «روس داوثات» حول التدخل الأمريكي لصالح الثورة في ليبيا تحت عنوان «ما كسبناه بليبيا خسرناه بمالي»، والذي شكّك من خلاله في حكمة التخطيط الاستراتيجي وفي صدق الدوافع الأخلاقية لهذا التدخل، لأن إنقاذ الأرواح في بنغازي وباقي المدن الليبية كما قال ينتهي اليوم بزهق الأرواح في تمبوكتو وغيرها من المدن المالية...
ولفت الكاتب الإنتباه إلى أن الأمر ليس بالبساطة التي نعتقد في شمال إفريقيا، حيث سيطرت الجماعات المسلحة المرتبطة بالقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على المدن الرئيسية بشمال مالي، وبدأت تنفّذ حملة تخريب ضد الآثار والمقدّسات على طريقة طالبان...
وأضاف «إن مالي ربّما لا تكون مهمة استراتيجيا اليوم، لكن أفغانستان كانت لا تبدو مهمّة عندما إستولت طالبان على السلطة... إن ما يحدث في مالي كما ختم هو واحد فقط من التداعيات الكثيرة للاطاحة بالقذافي...
وفي قول هذا الكاتب الكثير مما حذّرت منه الجزائر، كما فيه الكثير من التخوّف من تحول الساحل الإفريقي إلى أفغانستان جديدة بكل ما يحمله من مخاطر واحتمالات التدخل العسكري الخارجي.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)