الجزائر - 08- La guerre de libération

بوالصوف..الثائر المحترف



بوالصوف..الثائر المحترف
اضطرت المنطقة الخامسة (غرب البلاد) مطلع 1955 إلى إلتزام “هدنة تكتيكية”، لمعالجة نقص التنظيم وندرة السلاح خاصة. (*) وفي غضون ذلك استطاعت أن تدخل كميات من الأسلحة، استعدادا لإنتفاضة ليلة 2 أكتوبر من نفس السنة بالتنسيق مع جيش تحرير المغرب. هذا التنسيق الذي أفزع سلطات الإحتلال، فسارعت بطي ملف الحماية في البلد الشقيق، حتى تتفرغ لمواجهة الثورة الزاحفة بالجزائر، وكانت سنة 1956 في المنطقة، سنة التأسيس للأسلاك المتخصصة في جيش التحرير، بفضل الكفاءات النضالية والطلابية المتطوعة لدعم صفوف الثورة التحريرية.
وفي نفس السنة نقل عبد الحفيظ بوالصوف مقر قيادة الولاية الخامسة إلى ضواحي وجدة، ليجعل من المنطقة الحدودية قاعدة خلفية آمنة، في عهد كان المغرب بصفة عامة بمثابة وكر لجواسيس فرنسا وعيونها..
وفي أواخر ماي 1957، استقبل بوالصوف رمضان عبان منسق لجنة التنسيق والتنفيذ بالناظور (المغرب) فاكتشف كل منهما أول وهلة أنهما مختلفان، ليس في بعض المواقف وحسب، بل في المزاج كذلك!
“هدنة تكتيكية” استعدادا لانتفاضة 2 أكتوبر
كانت المنطقة الخامسة (غرب البلاد) في موعد فاتح نوفمبر 1954 بالامكانيات المتاحة، وكانت متواضعة قياسا بمناطق أخرى (1 و 2 و 3 خاصة)، علما أن بن مهيدي ورفاقه كانوا يعولون كثيرا على صفقة أسلحة موعودة، لكنها لم تنجز قبل الموعد التاريخي.
كان عبد الحفيظ بوالصوف يومئذ عضوا في مجلس المنطقة، وقائد للناحية الأولى (تلمسان)، وبهذه الصفقة حضر اجتماعا تقييميا أواخر جانفي 1955، للنظر في حصيلة 3 أشهر من الكفاح المسلح.. كانت الحصيلة دون التوقعات الأولى، وكشفت بصفة خاصة عن قلة إستعداد القاعدة الإجتماعية للثورة، فضلا عن ضعف الإمكانيات بدءا بمشكلة الأسلحة التي ما انفكت تؤرق قيادة المنطقة بعد أن فقدت مبكرا اثنين من أبرز أعضائها: رمضان بن عبد المالك عضو مجلس الـ 22 وأحمد زهانة (زبانة خطأ).
أسفر هذا الإجتماع التقييمي عن قرار التزام هدنة تكتيكية بهدف إعادة ترتيب البيت.
تمثل هذا في استئناف التوعية بالثورة وأهدافها، مواصلة تنظيم قاعدة الثورة، تدريب طلائع الثوار تدريبا ملائما، إدخال ما أمكن من السلاح تحضيرا لجولة قادمة، تكون امتدادا قويا لعمليات فاتح نوفمبر 1954..
كان التكوين مثلا يعتمد على تلخيص قواعد الحرب الثورية في 12 درس، لا يتعدى الدرس الواحد 3 أسطر، حسب شهادة الحاج بن علا.
وبخصوص الأسلحة، استفادت المنطقة فضلا عن جهودها الخاصة بغرب البلاد وفي المغرب ـ من مددين عن طريق البحر:
ـ مدد اليخت “دينا” في أواخر مارس 1955، وهو المد الذي رافقه 5 ثوار من بينهم هواري بومدين (محمد بوخروبة).
ـ مدد المركب “انتصار” في 21 سبتمبر من نفس السنة.
وبفضل توسيع قاعدة الثورة، وجهود التكوين والتسليح قامت المنطقة الخامسة بانتفاضاتها الثانية ليلة 2 أكتوبر 1955، وكانت انتفاضة مدوية وموفقة، لا سيما أنها تمت بالتنسيق مع جيش تحرير المغرب الذي شن عمليات ممثالة في نفس الليلة..
هذا التنسيق أفزع الحكومة الفرنسية، فسارعت بطي ملف الحماية في المغرب، في بداية نوفمبر الموالي جمع بوالصوف رفاقه ـ في غياب قائد المنطقة ـ بجبل زكري، لتقييم عمليات 2 أكتوبر التي كان لها صدى كبير، ضايق كثيرا سلطات الإحتلال التي كانت تركز في دعايتها على “هدوء” غرب البلاد.
كان هذا الإجتماع محل وشاية من صاحب الدار الذي إستضاف بوالصوف ورفاقه، نتجت عنها عملية تمشيط خاطفة..
وحسب شهادة بن علا دائما، أن التمشيط باغته رفقة بوالصوف في منزل مقدم زاوية بالناحية، فطلبا منه الوقوف أمام الباب وصرف جنود العدو بالحسنى.. فلما وصل نقيب الوحدة أمام البيت، حياه المقدم بهدوء قائلا “لا شيء يذكر يا حضرة النقيب!”.
غير أن عملية التمشيط فاجأت نحو فصيلة من المجاهدين بجبل زكري، مما أدى إلى اشتباك 7 نوفمبر الذي أسفر عن استشهاد 13 منهم.. وأشع إثر ذلك أن بوالصوف وبن علا كان من بين الشهداء.
وفي غضون النصف الثاني من ديسمبر الموالي، عقد مجلس المنطقة الخامسة سلسلة من الإجتماعات توجت بعدد من القرارات منها:
ـ دعم القاعدة الخلفية للمنطقة بناحية وجدة (المغرب) وضواحيها، وكانت قيادة المنطقة قد حرصت منذ البداية على تأمين هذه القاعدة، بتكوين شرطة سرية بها، تابعة لنظام جبهة التحرير الوطني.
ـ تنظيم الجالية الجزائرية بالمغرب، ومساندتها للثورة، وكانت الجالية قد نظمت نفسها قبل ذلك في شكل ودادية
ـ تجديد الإتصال بالمنطقتين الرابعة والسادسة.
موقف واقعي من مؤتمر الصومام
أصبح بوالصوف قائدا للمنطقة بالنيابة عمليا ابتداء من مطلع 1956، إثر سفر بن مهيدي إلى القاهرة.. فواصل استكمال تنظيم المنطقة، وتهيئة شروط تعميم نظام جبهة وجيش التحرير شرقا وجنوبا.
وشهدت الناحية الثانية (مغنية ـ الغزوات) من المنطقة في 19 فبراير من هذه السنة، عملية فرار جماعي ناجعة، لنحو فصيلتين من الطلائع الجزائرية بمركز الصبابنة، كانت دعما هاما للمنطقة بالسلاح والمقاتلين المدربين، أمثال ضابط الصف الطاهر حمايدية الذي اشتهر لاحقا باسم النقيب الزبير.
وفي نفس الفترة كانت المفاوضات الفرنسية المغربية على وشك التتويج بطي أعلام الحماية، وكان السؤال الذي يطرح نفسه على بوالصوف ورفاقه يومئذ هو: ماهي انعكاسات إستقلال المغرب على الثورة الجزائرية في منطقة وهران، وقواعدها الخلفية في التراب المغربي؟ للتذكير أن قيادة المنطقة كانت على صلة وثيقة بقيادة جيش تحرير المغرب، بدءا بمسؤوله الأول عبد الكريم الخطيب.
وبحثا عن جواب مطمئن لهذا السؤال دخل بوالصوف رفقة بقية أعضاء مجلس المنطقة (الحاج بن علا، محمد فرطاس، هواري بومدين) إلى المغرب، وصادف وصولهم الإعلان عن استقلال البلد الشقيق، وانشغال معظم المسؤولين آنذاك في الإحتفالات بهذا الحدث السعيد، فما كان منهم إلا أن عادوا أدراجهم في 8 مارس 1956، لأن الظرف لم يكن مناسبا للحصول على الجواب المنتظر(1)
في أواخر نفس الشهر رجع بن مهيدي من القاهرة، مصمما على الإلتحاق برمضان عبان في الجزائر.. وتمهيدا لذلك اجتمع مطولا بنائبه الأول بوالصوف، قبل أن يستخلفه رسميا في أبريل الموالي (2) واجه بوالصوف الموقف كقائد للمنطقة بالنسابة بصرامته المعهودة، وحنكته المشهودة في التنظيم السري خاصة، ولقي في مايو من نفس السنة دعما واعدا فرديا وجماعيا:
ـ فرديا بالتحاق مناضل بارز، أصبح له شأن في النشاط السري لاحقا، ونعني به مسعود زقار.. فقد استقبله بوالصوف، ولما عرف سوابقه في الأعمال ومعرفته بالدار البيضاء، كلفه بمهمة محددة: التقرب من قاعدتي النواصر والقنيطرة الأمريكيتين، للحصول على ما أمكن من سلاح وذخيرة وأجهزة لا سلكية (3).
ـ جماعيا بإقبال عدد من التلاميذ والطلبة على التطوع في نظام الثورة، بعد إضراب 19 مايو، استجابة لنداء الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين.
لقد وجد قائد المنطقة بالنيابة ضالته، لتأسيس نواة الأسلاك المتخصصة في نظام جبهة وجيش التحرير الوطني: إشارة، جوسسة، وقاية، دعاية، حرب نفسية، فضلا عن تكوين الإطارات القيادية.
وكانت البداية في 8 أوت 1956، بتدشين أول تربص لأول دفعة في سلاح الإشارة.
شهر أوت هو شهر مؤتمر الصومام أيضا، ترى ما كان موقف بوالصوف من هذا الحدث الوطني الهام؟ طلب بن ميهدي من بوالصوف وكالة كتابية للمشاركة في المؤتمر، وفي لجنة التنسيق والتنفيذ التي ستنبثق عنه.. فاستشار بوضياف في ذلك، فكانت خلاصة رأية: أن الوقت لم يحن بعد لتكوين قيادة مركزية بناء على اتفاق قبل إعلان فاتح نوفمبر باعتماد اللامركزية، إلى أن تبلور الثورة في مستوى معين من التطور (4).
واستنادا إلى هذا الرأي، أحجم بوالصوف عن تليية طلب بن مهيدي الذي اكتفى بوكالة الحاج بن علا فقط. وقد اجتمع به بوهران في طريقه إلى الجزائر..
لذا اعتبر بوالصوف ما جرى في 20 أوت بالصومام مجرد ندوة، وليس مؤتمرا بأتم معنى الكلمة، ومع ذلك عندما استلم وثائق الإجتماع، قام بطبعها وتوزيعها وآمرا بشرحها..(5).
الثائر المحترف و”السياسي” المندفع!
1ـ هواري بومدين
2ـ محمد رواي
3ـ علي كافي
4ـ منصور بوداود
5ـ عبد الحفيظ بوالصوف
6ـ عبد الرحمان بروان
7ـ رشيد مستغانمي
8ـ عبد العزيز بوتفليقة
9ـ أحمد قايد

غداة مؤتمر الصومام وتعيين بن مهيدي في لجنة التنسيق والتنفيذ، تولى بوالصوف قيادة الولاية الخامسة رسميا، وكان قبل ذلك قرر نقل مقر القيادة إلى ناحية وجدة وضواحيها، واستنادا إلى التجارب الثورية السابقة التي لجأء قادتها إلى الخارج عموما، بعد أن انتهوا إلى صعوبة القيادة من الداخل، لينين مثلا قاد الثورة البلشفية في روسيا القيصرية من فرنسا وسويسرا وألمانيا ...
معنى ذلك أن بوالصوف قرر حل المشكلة، قبل أضطرار عبان ورفاقه إلى مغادرة الجزائر بعد نحو سنة. غير أن هذا القرار الصادر عن ثائر محترف، لم يجد التفهم المنتظر في حينه.
وتؤكد النتائج المترتبة عن هذا القرار الوجيه سواء على مستوى الولاية الخامسة أو على مستوى قيادة الثورة عامة أنه حسنا فعل.. فالثائر أيضا يدرك جيدا، أن التضحية عبثا ليست من الثورة، ولا يمكن أن تخدمها..
وأول درس قدمه بوالصوف لمساعديه في مقر القيادة الجديدة ومحيطه هو: “عليكم بإلتزام السرية في المغرب، كما لو كنتم داخل الجزائر، لأن هذا البلد الشقيق، كان وما يزال بعيدا عن استعادة إستقلاله هو وكر للجواسيس والمخبرين” ...(06) في جو السرية - وما تقتضيه من حيطة وحذر - بدأ بوالصوف يستعين بالكفاءات والمهارات الدينية والعسكيرة التي تتوافد على مقر القيادة، ليؤسس نواة أجهزة متخصصة في خدمة ولايته أولا، ثم في خدمة الثورة بصفة عامة.
تفطن لأهمية سلاح الإشارة في ضمان الإتصال المنتظم والسريع، فاستعان بالتلاميذ والطلبة المضربين لتكوين أول دفعة في هذا المضمار: دفعة الشهيد أحمد زهانة (زبانة خطأ) التي انطلقت في 8 أوت 1956 بـ25 متربصا، تحت إشراف المساعد (الفار من جيش الإحتلال) عمر الثليجي..
وبفضل هذه الدفعة - وعناصر أخرى فارة من الجيش الفرنسي - تمكن بوالصوف من تدشين محطتين للإشارة:
- محطة “القاعدة 15” التابعة للولاية، والتي تمكنت من إجراء أول اتصال بالمورس في سبتمبر الموالي.
- محطة تيطوان، وكانت في خدمة بوضياف مسؤول اتنسيق بين الخارج والداخل، انطلاقا من الجبهة الغربية
والى جانب الإتصال اللاسلكي، حرص بوالصوف ومساعدوه المتخصصون كذلك على إقامة جهاز للتنصت على اتصالات العدو لرصد تحركاته خاصة، وتنبيه الثوار داخل الولاية إليها في الوقت المناسب، ولم ينس طبعا سلاح الإعلام والدعاية الذي كان يعتمد منذ مايو 1956 على صحيفة “المقاومة” (الطبعة ب)، لسان جبهة التحرير بالمغرب، فقد سعى لدعم هذه المنظومة بإذاعة للثورة، بدأت في البث من ناحية الناظور يوم 16 ديسمبر من نفس السنة بثلاث لغات:
- العربية بلسان عقبة (رضا بن الشيخ الحسين)
- الأمازيغية بلسان يوغورطة ( حمود بن عبد الله)
- الفرنسية بلسان صلاح الدين الأيوبي (عبد المجيد مزيان) .
وعلى صعيد الإعلام والرقابة، أشرف بوالصوف شخصيا في يناير 1957 على تربص استغرق 10 أسابيع، لفائدة 17 فتاة وفتى، كان من بينهم الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة.
وفي جويلية من نفس السنة دشن مدرسة للإطارات، بهدف تكوين العناصر المرشحة للقيادة تكوينا سياسيا وعسكريا... وقد أسند إدارتها الى لعروسي خليفة، وكان من مؤطريها بلعيد عبد السلام ودلسي ومعاوي...
ومن مدربيها العسكريين عرباوي وأحمد مغاري، من رفاق بومدين في مغامرة اليخت “دينا”، وحملت الدفعة الأولى من هذه المدرسة اسم قائد الولاية السابق”محمد العربي بن مهيدي”
كان بالوصوف قبل ذلك قد استقبل بالناظور في ماي كلا من أوعمران وعبان، عضوي لجنة التنسيق والتنفيذ اللذين فضلا الخروج الى المغرب عبد الولايتين الرابعة والخامسة .. وكشف اللقاء أول وهلة خلافا بين بوالصوف وعبان خاصة على صعيد الموقف والمزاج في آن واحد:
- على صعيد الموقف، فاجأ عبان مستقبليه، وهو يتحدث عن اختطاف طائرة الوفد الخارجي لجبهة التحرير في 22 أكتوبر 1956 بقوله: ”لحسن الحظ أنهم وقعوا في قبضة العدو لأننا كنا نتأهب لإصدار بيان تنديد بمشاركتهم في لقاء تونس، نتهمهم فيه بالخيانة!”
طبعا استنكر بوالصوف ورفاقه مثل هذا الموقف، ودافعوا عن الوفد الخارجي الذي لا يمكن في نظرهم أن يوافق على أي تنازل للعدو..
- على صعيد المزاج تصادم الرجلان أيضا، إلى درجة أن عبان نعت بالوصوف بالصعلوك! فرد عليه قائلا :” لا تنس أنني إبن فحام!”(7)

(*) طالع الحلقة الأولى، الفجر عدد 2013/06/05
(1) شهادة الحاج بن علا.
(2) شهادة دحو ولد قابلية.
(3) شهادة السنوسي صدار
(4) شهادة بوضياف
(5) و (7) شهادة الطيب الثعالبي
(6) الشريف عبد الدائم، في كتابه حول والصوف، وكالة النشر والإشهار، الجزائر 2009

سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)