الجزائر

الله عز وجل بين الظهور.. والخفاء


الله عز وجل بين الظهور.. والخفاء
يقول ابن عطاء الله السكندري: ”أظهر كل شيء لأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء لأنه الظاهر”.قلت لك في شرح الحكمة السابقة إن اسمي ”الباطن” و”الظاهر” لله تعالى، يصدقان عليه بالمعنى النسبي والإضافي، لا بالمعنى المطلق لكل منهما.. فهو جل جلاله ”الباطن” بالنسبة لحواس الإنسان من سمع وبصر إلخ وهو سبحانه ”الظاهر” بالنسبة للمدارك العقلية للإنسان..ونقول الآن: إنَّ المكوَّنات أيضاً تتصف بكل من وصفي الظاهر والباطن بالمعنى الإضافي ذاته.فإن لاحظت اسم الله ”الباطن” فالمكونات تتصف إذن بالظهور، لأنها في مظاهرها البارزة فيها تحمل الأدلة العقلية الكثيرة على وجود الله الخفي عن الحواس والأنظار.. إذ إن ظهورها يحمل-كما قلت لك-آثارًا واضحة من صفات الله المتمثلة في علمه وحكمته ورحمته وإرادته وقدرته.. ومن ثم فإن ظهور المكونات بأشكالها المرئية تقابل بطون الله تعالى وخفاؤه عن الحواس ولأبصار.وإن لاحظت اسم الله الظاهر فالمكونات كلها بالنسبة لا سمه هذا تتصف بالخفاء والانطواء.. ذلك لأن ظهور الخالق عز وجل للعقول والألباب ينبهك إلى أنه غير صاحب الوجود الحق، والوجود الذاتي المطلق.. ومن ثم فإن الأشياء الأخرى كلها معدومة في ذاتها، وإنما اكتسبت وهم الوجود الذاتي بإيجاد الله لها، ثم إمداده إياها بالوجود لحظة فلحظة فهي معدومة إذن، أي لا تملك وجودها، وكيف تملك شيئاً لا ينبثق من ذاتها.وما قد يخبل إليك من وهم وجودها، إنما هو وجود الله امتد أثره بإمداد الله، على الكائنات، فرأيت فيها ماهو-عند التحقيق-من صفات الله سبحانه وتعالى.ولسيدي أبي مدين أبيات معروفة يعبّر فيها بدقة عن هذا المعنى الذي يجب أن لا يغيب عن بال أي مؤمن بالله موقن بوحدانيته يقول فيها:واعلم بأنك والعوالم كلهالولاه في محو وفي اضمحلالمن لا وجود لذاته من ذاتهفوجوده لولاه عين محالوالعارفون بربهم لم يشهدواشيئاً سوى المتكبر المتعاليورأوا سواه على الحقيقةهالكاً في الحال والماضي والاستقبال.ولا يذهبن بك الوهم أن هذا الذي يقرره ابن عطاء الله، والذي شرحته لك بهذه الأسطر، تقرير لمعنى وحدة الوجود، التي هي من أسوأ أنواع الباطل ومن أجلى كفريات الحلول.. فإن هذا الذي بينته لك من كلام ابن عطا الله، جوهر التوحيد ولبابه، ولا شأن له بوحدة الوجود قط.عندما نقول: (إذا وقفنا عند اسم الله”الباطن”فالمكونات إذن ظاهرة تقوم بدور الدلالة على وجوده عز وجل) فهذا تقرير صريح بأن المكونات موجودة، إلاَّ لما تحقق فيها معنى الدليل على وجود الله، ضرورة تحقق التغاير بين الدال والمدلول عليه.كذلك عندما نقول: (إذا وقفنا عند اسم الله (الظاهر) فالمكونات إذن بالنسبة إليه باطنة، لأن وجودها به وقيامها به واستمرارها به) هذا تقرير واضح بأن المكون موجود..لا ينكر وجود المكونات المرئية بالعين والثابتة بالعقل، إلا مجنون أو أحمق.. ولكن لا يعطيها صفة الوجود الذاتي المستقل بنفسه إلاَّ مشرك تائه عن معنى وحدانية الله من حيث الذات والصفات.والذي يهيمن عليهم هاجس الخوف من وحدة الوجود، ولا يحالون أن يحرروا نفوسهم منه، بالرجوع إلى المنطق والعلم، في فهم معنى وحدانية الله والوقوف على دلائلها، لابد أن يتقلبوا خلال حياتهم كلها في مخاضة الشرك.ثم إنك لن تستطيع أن تتعامل مع معنى كل من هذين الاسمين من أسماء الله الحسنى”الظاهر” و”الباطن” إلا على ضوء هذا الذي تم بيانه في شرح هذه الحكمة:ظهور الله عز وجل طبقاً لاسمه الأول، لا بد أن يقابله خفاء وكمون المكوَنات، ذلك لما ينبغي أن تعلمه من أن الوجود الذاتي الحق إنما هو وجود الله وحده، إذن فقد وقعت المكونات التي ليس لها إلا وجود ظلي في ساحة الخفاء.وبطون الله عزوجل، طبقاً لاسمه الثاني، لابدّ أن يقابله جلاء وظهور المكونات وذلك لما ينبغي أن تعلمه من أن المكونات تلعب في هذه الحالة دور الدلالة على وجود الله، وذلك لما تحمله المخلوقات المتنوعة من آثار الصفات الإلهية الدالة بدورها على الخالق جل جلاله.إن ثنائية الخالق والمخلوق قائمة في كل الأحوال، ولكن العلاقة بينهما ليست علاقة الند مع الند أو النظير مع النظير، وإنما هي علاقة أصل وفرع، وهي من نوع علاقة الجداول بالمعين..وإذا غاب المعين عن عينك فالجداول المرئية دالة عليه..وإذا تجلّى لك المعين وغابت عنك الجداول فالمعين ناطق بوجوده ودالّ عليه..المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)