الجزائر

القتلة الجدد


القتلة الجدد
في النكبة الأولى.. أعني في التسعينات الدموية.. كانت شرايين الجزائر مفتوحة لأقصاها.. وما فيها من سائل الحياة يتدفق كشلال أحمر.. بتلك الدماء الغزيرة كتبت صفحة متوحشة من تاريخ الجزائر المعاصرة.. وعرفنا نحن الجزائريين أن السلم الوطني ليس شيئا يمكن التفاوض عليه.. بل شيئا لا نعرف ماهيته بالضبط.. ويجب انتظاره.
عايشنا هذه النكبة.. بشحنتها الزائدة من العنف والوحشية والسادية.. بمظلوميها وظالميها.. بمن كان هو السفاح ومن كان هو الضحية.. بمن بكى بغزارة وشكا أمره إلى الله.. ومن فر فيها من ظل الموت المتربص به.. ومن انزوى يحصي ندمه.. ومن انتظر أن يأتي الفرج من مكان ما.
عرف الناس النكبة الأولى.. بوصفها مأساة وطنية.. أي إن صناعها جزائريون.. والذين احترقوا بنارها جزائريون.. والخاسر فيها كالرابح.. تعادل فيها الطرفان أمام الموت.. وتساوى الأحياء والأموات في رقصة الرعب.
***
في تلك الأيام السوداء والقبيحة.. كنا نتساءل: يا ترى ماذا سيعقب هذه الأيام العجاف.. حين يصب القاتل آخر ضحية في حسابه ويمضي؟ وأي حزائر سنجد حين يكف الموت عن التجول بيننا بحرية؟ وهل ينسى الجزائريون ما وقع.. أم إن ذاكرة الدم ستظل شغالة.. فتنتفض كلما حفزتها نكبة جديدة؟
كنا نخشى أن تكون الأحداث السابقة.. مجرد تمهيد لأهوال ضخمة قادمة.. فتداعيات الأحداث قد تكون أقسى من الأحداث ذاتها أحيانا.. فشجرة الأرز العملاقة تنمو من بذرة بسيطة.. ومن ثم تولد تراجيديا إضافية.. نتعذب معها بألوان جديدة من المعاناة.
بجرد بسيط للأشياء.. نستخلص أن الجزائر لم تتعاف بعد من السنوات السوداء.. صحيح أن القتلة تراجعوا كثيرا وأخفوا أنفسهم.. ولم يعودوا يتبجحون كما من قبل.. وكفوا عنا أيديهم وألسنتهم.. وأولئك الذين كانوا يصبون الزيت على النار.. لم يعودوا يتكئون على شعارات التحريض ليشعلوا حرائق جديدة…. وقوائم القتلى والمفقودين والمفجوعين تكاد تغلق.. وحل نوع من السلم الحذر تغذيه الطفرة النفطية.. وشعر الناس بشيء من الأمن الذي افتقدوه في زمن الرعب.. فهل نقول الآن إننا بخير.. أم إن ما يطفو على السطح يخالف ما يجري تحته؟ هل هي النكبة الثانية ولدت في أحضان النكبة الأولى؟
ما هو صحيح مائة في المائة.. أن المأساة الوطنية لم تعرف نهاية محددة المعالم.. بمعنى أنها لم تعالج بحل جذري ونهائي.. يبدأ بمصالحة وطنية حقيقية.. يتوافق عليها الجميع.. كما لم تحاول قراءة ما بعدها.. لتتبين ما يترتب عنها من آثار في المستقبل.. فالممنوعات السياسية لا تزال قائمة.. وأجواء الشك تطبع خياراتنا.. والمتخاصمون يتمترسون في مواقعهم القديمة.. وهذا دليل على شيء لا نحبه؟
لقد طوي الملف نظريا.. وكان هناك من يستعجل نهاية ما للعنف.. دون أن تشغل باله الطريقة التي تقع بها هذه النهاية.. فانتظرنا عشر سنوات.. ليتكشف الوجه الآخر للمأساة.. وتولد النكبة الثانية.
عندما نقرأ عن الجرائم التي تعصف بالمجتمع.. وفي القائمة مخدرات وقتل وسرقات.. وبؤس اجتماعي.. وسوء تسيير وإهمال.. وتهريب.. وتبييض أموال.. وتزوير انتخابات.. نكتشف أن المأساة الوطنية.. تستمر بأسلوب آخر.. وإن بنوع من الصمت.. فهي لا تشير بشكل مباشر إلى انتهاك حقوق الإنسان ومصادرة الحريات.. بل تكيف ما يقع باعتباره انحرافات اجتماعية لا أكثر.
أتساءل: بغير ما حدث في التسعينات.. أكان بمقدور وزير واحد نهب ملايين الدولارات.. على حساب مصالحنا الاقتصادية؟ وهل كنا سنشهد فضيحة الخليفة بأرقامها الفلكية؟ وهل كان سيولد قتلة محترفون وسفاحون يختطفون الأطفال ليذبحوهم بكل برودة دم؟ وهل كان المجتمع ليغرق في طوفان المخدرات التي تنخر العقول.. لترمي الضحايا خارج الواقع؟
وهل كان يتسنى للفاشلين والمتخلفين أن يشغلوا المواقع المتقدمة.. ويزيحوا الكفاءات الوطنية.. ويفرضوا عليها الهجرة القسرية إلى المنافي؟ وهل كان بمقدورالحزب الواحد القديم أن يعود إلى الواجهة.. ليصبح الرقم الفاعل في الساحة السياسية؟
إذا كان صحيحا أن اللصوص موجودون دائما.. فإنهم سيكونون صغارا دون شك.. ولن يضعوا أيديهم على المليارات دفعة واحدة.. والقتلة لن يتجرؤوا على ممارسة الإبادة الجماعية.. وتجار السموم البيضاء لن يكتشفوا جنة آمنة.. ولن تعرف الجزائر هذا اللون من الرداءة والمحاباة.
ففي المقابل.. يكون صحيحا أيضا أن النكبة الأولى.. قد أنجبت نكبة ثانية أبشع منها وأخطر.. وتوفرت البيئة الحاضنة للقتلة الجدد.. والظاهر أن عجز الجزائريين عن إدراك حجم وماهية المصائب المحيطة بهم.. يمنحها فرصة مثالية للتكاثر الفاحش.. والانتشار الوبائي.. حيث لا مكان يهرب إليه أحد.. فمتى ننتبه؟
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)