الجزائر

الفلسفة وسلطة الجهل والنسيان



منذ أيام احتفل الجامعيون بيوم الفلسفة، وطبعا لذلك معنى ودلالة أن نحتفل كنخب بالعقل والتأمل والحس التقدمي والتفكير، وبكل ما من شأنه أن يساعدنا ويشجعنا على طرح الأسئلة على أنفسنا وشروط حياتنا، وعلى ذاكرتنا وعلى كل ما يعطي لوجودنا معنى. لكن هذا الإحتفال بيوم الفلسفة لا يغطي ما أصبحنا نعيش فيه من ظلام وحلكة ضمن حياة أصبحت مستسلمة في غالبها لكل ما هو غير عقلاني وخرافي وابتذالي في النظر إلى العالم والآخر وإلى الذات. وهذه النزعة اللاعقلانية لم تصبح فقط متفشية في أوساط المجتمع والحياة المتواضعة في الجزائر، بل طالت كل الدوائر والجهات والفئات المفترض أن لها نزر كبير من المعرفة والعلم.. لو حدقنا النظر في الجامعة وما أصبحت تلقن به ناشئتنا لاكتشفنا برعب وفزع وحزن ما آلت إليه المنظومة التربوية وما آل إليه وضع الثقافة من بؤس وانحطاط وانعدام يكاد يكون كليا للتفكير والنقد.. لقد انمحى النقد من كل المجالات وساد التقليد والنزعة التبعية، ما أدى إلى الركود والجمود والتحجر.. ويعود ذلك إلى أسباب كثيرة، لكن أهمها هو تخلي المؤسسات العمومية عن دورها المنوط بها في نشر المعرفة والأفكار، وهذا ما فتح الباب على مصراعيها أمام محترفي الشعوذات ذات الأشكال المختلفة وعلى ناشري في الجهالة في شتى الميادين.. وأني لأشعر بالقرف والدهشة وأنا أتذكر ما قاله الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد أمام نخب الأمة عندما برر التخلي عن دعم الكتاب، كون هذه الكتب لا يقتنيها سوى المسؤولون، وهذا طبعا غير صحيح، وإثر ذلك أغلقت الأبواب أمام المجلات العربية والغربية التي كانت ترد إلى الجزائر. وكذلك لم تعد الجزائر تشجع على استيراد الكتاب الثقافي والعلمي والنقدي، بحيث حل محل ذلك الكتاب الديني المبتذل الذي شجع على نشر السلوكات والقيم البسيطة للفكر السلفي المحارب للعلم والمعرفة والفكر.. وامتد هذا التوجه إلى المدارس نفسها، بحيث أهملت الفلسفة وأهملت الفنون، وكفت الدولة عن طبع الكتاب بغلقها للمؤسسة الوطنية للكتاب والتخلص من المكتبات التابعة لها على المستوى الوطني، وبررت ذلك بتنازلها لصالح موظفي وعمال المؤسسة. لكن ما حدث كان كارثة حقيقية عندما قام هؤلاء بتحويل المكتبات إلى محلات للألبسة والساندويشات.. كما تخلصت المؤسسة الوطنية للكتاب من كل تراثها العلمي والثقافي الممثل في ذلك الكم الهائل من الكتب، وتخلصت من كل جهد لوضع أسس لاستراتيجية ثقافية، ففتحت الأبواب أمام المتطفلين ولم يعد هناك من اهتمام بالأعمال اللافتة للنظر لكتاب ومفكرين جزائريين..؟ وبالرغم من التظاهرات الثقافية التي أشرفت عليها وزارة الثقافة، مثل الجزائر عاصمة الثقافة العربية، وتلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية، وخمسينية الإستقلال، والأموال التي منحت للمؤسسات الخاصة والأفراد من أجل إعادة طباعة الأعمال الثقافية والفكرية الجزائرية، إلا أن ذلك لم يغط ولو نسبة ضئيلة، وبقيت الكتب المطبوعة طي الأدراج وفي دوائر جد ضيقة دون أن تصل إلى الجمهور المثقف من أبناء الجيل الصاعد والجديد.. إننا اليوم في حاجة إلى ثورة من طراز جديد في مجال الثقافة والفكر، بدايتها تكون من إعادة الإعتبار لتراثنا الفكري والثقافي القريب، والعمل على توزيعه ونشره ووضعه بين متناول الشباب، وبدايتها كذلك تبدأ في خلق مناخ جديد وأطر جديدة تساعد على تشجيع الباحثين الشباب على إعادة قراءة هذا التراث الفكري وتقييمه من جديد و"سنتزته" حتى يشكل تراكما وقاعدة جديدة نتمكن بها من النظر إلى ملامحنا، ملامح العقل الجزائري في مرآة غير صدئة.. من منا اليوم يجد أعمالا في نسخة شعبية لمفكرين ومثقفين، مثل مصطفى لشرف والركيبي وسعد الله وعبد القادر ساحلي ومحمد حربي ومولود نايت بلقاسم ورضا مالك، والنبهاني وعبد القادر جغلول وعبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي وغيرهم كثير.. إن فكرنا وثقافتنا بحاجة إلى حماية من النسيان والموت، وهذا لن يكون إلا بتقديم هذا الفكر والمفكرين بثوب جديد في المؤسسات التربوية وفي الأماكن العلمية والثقافية، وللدولة مسؤوليتها في ذلك، إلى جانب النخب في الإعلام والجامعات.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)