الجزائر - A la une

الربيع السلفي
لا يكاد يدخل المرء مساجد مدننا الشمالية إلا وأحس بالغربة بفعل ما دخل على الصلاة من حركات غريبة، دأب عليها شبان العصر الذين يغلب عليهم التديّن الجديد. فهذا يبالغ في ملاصقة رجليه بأرجل من بجانبه، وذلك يتفل أثناء الصلاة عن يساره طاردا الشيطان والوسوسة، وآخر يهرول إلى أعمدة المساجد بعد تسليم الإمام باحثا عن السترة ليتحول المسجد إلى مساحة شطرنج، وغيره يلتف حولك ليجعلك سترة له، وغيره يفتح أرجله محاولا تحويل أصابع قدميه كلها نحو القبلة ليتخذ بذلك هيئة رياضية معروفة في المصارعة.أما على المنابر فلا تكاد تسمح بداية خطبة إلا وبدأ بها الخطيب بالبخاري ومسلم أو أتبع الحديث النبوي بمصطلحات يجهلها معظم الحاضرين كأن يقال "صحيح على شرط البخاري"، أو "متفق عليه"، أو "رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين"، وغيرها من المفاهيم التي تتحول إلى طلاسم لدى رجل الشارع، الذي لا يملك إلا الإذعان والتصديق والتقديس. كما يعمد البعض إلى ابتداء الخطبة بأحاديث الصحيحين أو تصحيحات الألباني وتقديمه أحيانا على الآيات القرآنية حتى يكاد يصدق عليهم وصف البخاريين في مقابل فرقة القرآنيين الجديدة التي تضع الكثير من مرويات السنة محل تشكيك من فرط مواجهتها للتيار السلفي الحديثي.من المؤكد أن خطاب التيار السلفي العلمي يعوّل على مدى سلطة النص على الجماهير وتسليمها وانقيادها له مستغلا مساحة الالتباس بين تبجيل الحديث النبوي والدراية والأفهام التي تعود إلى الرجال، وهو حال معظم المسلمين الذين لا يملكون من الدين إلا حبّ الإسلام والاستعداد للامتثال لأوامره بقدر المستطاع في مواجهة إكراهات الواقع.يحدث هذا كذلك في ظل تقلص دور المؤسسات الدينية الرسمية وانهيار معظم المؤسسات التقليدية وانجرافها أمام ضربات نظام التعليم العصري، والتي كانت سابقا تغطي حاجة الناس للفتوى والعلوم الشرعية. ولذلك فإن المتلقي للخطاب السلفي الشفهي أو "فقه الأرصفة" الذي توفره الكتيبات المجانية لا يجد إلا أن يسلم لها أمور دينه مخافة السقوط في مغبة الكفر أو العصيان. ومن هنا يبني التيار السلفي سلطته الاجتماعية على سلطة النص ورواج الفقه الاستعجالي المختزل في الحديث الصحيح. كما يجد من الشباب المتعطش للدين مادته للتمرد الهادئ على المجتمع والتعالي على الأعراف الراسخة حتى وإن كانت صحيحة.من الضروري هنا أن نشير إلى ما يفند هذا المنحى بما يحدث داخل البيت السلفي نفسه من مراجعات لكتب الصحاح، حيث أقدم الشيخ الألباني بعد التحقيق على تضعيف ثمانية أحاديث في البخاري، والرد في مسائل عديدة على شيوخ السعودية، فيما لو عاد أي طالب علم إلى كتب الحديث لوجد فيها الكثير مما يقطعون بصحته هو نفسه مادة للاجتهاد والظن؛ فهذا ابن حجر العسقلاني يرى في أحاديث الآحاد، التي هي الأغلب عدديا في كتب السنة، أنها ظنية في مقابل قلة المتواتر المعروف بقطعيته. وهذا ابن تيمية يرى من شروط الأخذ بالصحيح عدم معارضته للمقطوع به عقلا. في حين ترى مدرسة حديثة أخرى ضرورة فتح باب تصحيح الحديث من جديد بالنظر إلى المتن والقرائن الحديثة، على عكس المدرسة القديمة التي تكتفي بتصحيح السند ودراسة حالة الرواة والعنعنة والسلسلة. ولعل ما يعضد هذا المطلب هو ما يخرج حاليا من فتاوى غريبة مؤسسة على أحاديث مبتورة السياق من الصحاح تكاد تنسف الدين من أساسه، والتي هي على شاكلة فتوى إرضاع المرأة لزميلها الرجل الأجنبي عليها بغرض تحريمه، وقتل المسلمين المخالفين في المعتقد أو المذهب.أما جانب الخطاب السياسي للسلفية فقد كان دوما بردا وسلاما على أنظمة الحكم العربية والإسلامية بل، وغير الإسلامية لما تراه من "تحريم الخروج على وليّ الأمر" بل ووجوب الامتثال لأمره ما أقام في مجتمعه الصلاة! ومقابل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسياسة الشرعية التي توسع فيها ابن تيمية، فإن موقف الإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن مع العباسيين تحول إلى مصدر تشريع وعقيدة سياسية تقيم عليه الحركة السلفية حكم تحريم مواجهة الحاكم أو نقده حتى وإن جار أو ظلم أو استبدّ أو أخذ الأموال أو استغل نفوذ السلطة لمصالحه. وأوجبت السلفية على الأمة الاقتصار على نصح الحاكم في السرّ والاكتفاء بالدعاء له بالهداية والصلاح عند رفضه تلك النصيحة. أما ثورات الأئمة الأوائل من الصحابة والتابعين بل وحتى خروج محمد بن عبد الوهاب على شرعية الخلافة العثمانية والإنسلاخ عنها بدولة السعودية الحديثة فقد تحوّلت بفعل التأويلات إلى استثناءات لا يقاس عليها.وإذا كانت الحركات الإسلامية من منظور الأنظمة القائمة في البلدان العربية شرا لا بد منه نظرا لقاعدتها الشعبية العريضة، فقد أتاح هذا الموقف الإرجائي للكثير من هذه الأنظمة مخرجا لتقبّل السلفية كحركة إسلامية أقل ضرراً على الوضع السياسي القائم من الكتل الإسلامية المناوئة الأخرى وتمكينها من الاستيلاء على الشارع العام. ومن هنا جاءت حضوتها عند الأنظمة بحكم دورها الاجتماعي الذي سيمتص الامتعاض الإسلامي ويُفرغ طاقاتها في الاجتهادات والتفريعات الفقهية ودقائق الأحكام التي لا تنتهي.وفيما كان الربيع السلفي ممتدا بهدوء خلال العشريتين الأخيرتين مستغلا رضا السلطات الحاكمة واستقرارها، فقد تفاجأ بتقاطعه بالربيع العربي المطالب برحيل تلك الأنظمة وطرحه العميق لمسألة الحكم ليضع الحركة السلفية في حرج كبير؛ فقد تباغتت الرموز السلفية الوفية لمبدأ "طاعة وليّ الأمر" بالربيع العربي وترددت كثيرا حول شرعنته ناهيك عن مساندته، فقد كان الحكام في كل من مصر وليبيا واليمن وغيرها من البلدان أولياء أمور للمسلمين لا يستساغ معارضتهم وبالأحرى خلع اللباس الإلهي عنهم والمطالبة بنزع شوكتهم. وقد كان بالتالي سقوط تلك الأنظمة الحاضنة لها نازلة غير مسبوقة لا توجد في كتيبات السلفية، ما أثار الارتباك في صفوف الشيوخ والأتباع. أما في البلاد التي انفتح فيه المجال لتأسيس أحزاب منافسة للحكم وأحزاب مساندة له، مثلما هو حال الجزائر، فإن ذهول الفكر السلفي في المسألة السياسية وقضية المعارضة السلمية لا يزال قائما، فقبول التعدية والمعارضة والتداول كجزء من النظام السياسي لا يضع نظرية مبدأ طاعة وليّ الأمر محل مراجعة بل ويؤسس لنقيضها بعد فتح باب نقد وليّ الأمر ومساءلته. لا أحد ينكر المساهمة العلمية للسلفية بالعودة إلى المصادر وضرورة التحقيق في كل شيء. غير أنها كذلك تتسببت في معضلات ثقافية وسياسية عميقة، ومن ذلك تفكيك المنظومات الفقهية السائدة في كل المجتمعات العربية وإغراقها في ركام من الأحكام التفصيلية والآراء التلفيقية والشكلية لتزيدها فوضى وتيها إلى فوضاها الثقافية وتيهها الذاتي، ومن ذلك بسط سيطرتها الفكرية على المجتمع، ففي حين تطالب الحركة السلفية بالاجتهاد وعدم الإتّباع فهي تلزم المجتمعات بأحادية الآراء التي تعتقد صحتها في الفئة المحصورة والمزكّاة من شيوخها. وإذا كانت بعض المجتمعات متعوّدة على التعدد الفقهي وبالتالي مكتسبة للمناعة، فإن البلدان التي تتميز بالانسجام المذهبي والوحدة الدينية والثقافية مثلما هو حال شمال إفريقيا، تتحول إلى مصدر تفريق وتفكيك وحدتها لتدخلها في أزمة المرجعيات المتعددة. هذا بالإضافة إلى ما تعانيه أصلا من تفكك مؤسساتها الثقافية التقليدية نتيجة التدمير الاستعماري.وإذا كان الربيع العربي والمطالبات الديمقراطية في المجتمعات الإسلامية قد أغلقت جزئيا باب حضوة الحاكم وفتحت باب الاجتهاد السياسي مكرِها الحركة السلفية للعمل بما يناقض موقفها المبدأي في مساندة الحكام والدعاء المطلق لهم بل والعمل مع الآخرين في ساحة الحراك السياسي، فإن معضلة التعامل الظاهري والحرفي للنص لا تزال قائمة. ويبقى التمسك بالنص الظاهري هو حتما إفراز أمية سائدة بأدوات الإنتاج الفقهي والاختزال الفكري للحياة المعاصرة في قالب الماضي المقدس. ولعل العمل على توجيه الساحة إلى الاستقراء القرآني والفكر المقاصدي ومراجعة كتب الحديث "المقدّسة" سيكون البديل القوي للفكر السلفي الظاهري السائد الذي سيساعد على تأسيس قراءة جديدة للدين ودور حضاري فاعل له.****************** المتلقي للخطاب السلفي الشفهي أو "فقه الأرصفة" الذي توفره الكتيبات المجانية، لا يجد إلا أن يسلم لها أمور دينه مخافة السقوط في مغبة الكفر أو العصيان.* جانب الخطاب السياسي للسلفية كان دوما بردا وسلاما على أنظمة الحكم العربية والإسلامية بل، وغير الإسلامية لما تراه من "تحريم الخروج على وليّ الأمر" بل ووجوب الامتثال لأمره ما أقام في مجتمعه الصلاة!* موقف الإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن مع العباسيين تحول إلى مصدر تشريع وعقيدة سياسية تقيم عليه الحركة السلفية حكم تحريم مواجهة الحاكم أو نقده حتى وإن جار أو ظلم أو استبدّ أو أخذ الأموال أو استغل نفوذ السلطة لمصالحه. ****************** أستاذ بجامعة البليدةmostefaa@yahoo.co.uk


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)