الجزائر

الجزائر: سؤال التاريخ ووقع الثمانينية'


الصدفة والتاريخ: لا يمكن لأي أحد أن يختار طريقة موته ولا تاريخ موته ولا مكان موته كذلك، ولكن عندما تتلاحم السياقات التاريخية في ما توحي به من أزمنة ورجال وأمكنة مع أنساقها المحمولة على ما يتراكم فيها من أحداث عادة ما تكون غير مكتوبة بخط واضح في صفحات الأجيال الجديدة، يستطيع المرء أن يدرك أن ثمة حكمة بالغة أرادها الخالق للتأمل في ما يمكن أن يؤسس له هذا الربط من عبرة جديرة بالعودة إلى ما يجمع الرجال بتاريخهم من علاقة قد لا تبدو منطقية تماما للوهلة الأولى ولكنها عضوية في تحريكها لذاكرة التاريخ وإعادة تحيينها لمجمل أيقوناته المتروكة جانبا عن قصد أو عن غير قصد من أجل طرح المساءلة الجوهرية التي أدت إلى بروز صفحة التاريخ في ما فعله الرجال بصورة غير واضحة أو غير مفهومة أو مزورة أو مغشوشة..
* لا يمكن لأي أحد أن يختار طريقة موته ولا تاريخ موته ولا مكان موته كذلك، ولكن عندما يلتقي تاريخ موت رئيس جمهورية بتاريخ ذكرى أهم حدث وقع أثناء مشوار حكمه، فربما يعني ذلك أن التاريخ يختار صُدَفَهُ وأن الصفحة التي طالما حُبِّرَت بطريقة غير واضحة وفُرضت باستعجال على أجيال كاملة من شباب جزائر ما بعد الاستقلال هي بحاجة مُلحّة إلى إعادة قراءة وإعادة كتابة وإعادة ترتيب في تراتبية الدفتر المدرسي..
* ثمة حكمة تقول إننا عندما نكمم فم التاريخ فإنّ التاريخ سيُبَأْبئْ بالضرورة، وعند ذلك ستكون له حرية الربط (غير المنطقي) المفاجئ بين اختفاء صانعيه واستيقاظه لحضور جنازتهم..
اكتشاف 'الثمانينية': لم تكن فترة الثمانينيات مجرد عشرية اتسمت بما اتسمت به من أحداث يتفق حولها المؤرخون أو يختلفون. كما أنها لم تكن مجرد عشرية انتقل فيها الجزائريون من البومديينية إلى الشاذلية كما ينتقل المواطن من بيت من غرفة واحدة إلى بيت فسيح بواجهتين تطل إحداهما على البحر والثانية على الصحراء.
* لقد كانت 'الثمانينية' ميدانا ساخنا مليئا بكل الأفكار التي هبت على المجتمع الجزائري بطريقة فجائية وصادمة. ففي هذه المرحلة اكتشف الجزائريون فكرة الحكم والدولة، وفيها اكتشفوا فكرة تحالف المال مع السلطة، وفيها اكتشفوا فكرة تصالح الإيديولوجيا مع المصلحة، وفيها كذلك عرفوا أن فكرة بناء مجتمع على المقاس غير ممكنة التحقيق في مجتمعٍ بدأ أفراده يشعرون بأن الفقر عيبٌ جوهريٌّ، على عكس ما قيل لهم طيلة فترة السبعينيات، وأنه بإمكانه أن يؤدي إلى إعادة مؤشرات الانسجام وحواسيب درجة حرارتها إلى فترة ما قبل الثورة حينما كان التمييز بين المُستعمِر والمُستعمَر مبرَّرًا سياسيا، وأن تغيير موازينه كان لا بد أن يمرّ في تلك الفترة عبر طريق وحيد ممكن هو الثورة على واقع هذا التمييز.
* لقد اكتشف الجزائريون في خضم التغييرات العالمية التي صاحبت الثمانينية أن ثمة عُقَدا أساسية في بنية التصور الذي حملته مشاريع منظري الدولة الوطنية المستقلة، لم تجد لها طريقا للاسترجاع من غرفة التاريخ المظلمة، ولا للذكر في كتاب الحاضر المليء بالضجيج، ولا للحلّ في ضوء رؤية مستقبلية واضحة. ولذلك كانت كل هذه العُقد هي المُحرّك الأساسي للصراع على السلطة في ما شهدته الجزائر بعد ذلك من أحداث، على عكس العامل الاقتصادي-المالي الذي استُعمل كساتر عورة. ومن هنا فقد اكتشف الجزائريون أن الجيل الأول من السياسيين والإيديولوجيين والمثقفين الذين صنعوا البومديينية بما امتازت به من تصورات ومواقف، وصنعوا كذلك 'الشاذلية' بما امتازت به من تصورات ومواقف، لم يفعلوا طيلة الفترتين أكثر من أنهم ورّثوا للجيل الجديد،-أبنائهم- هذه العقد كما هي دون زيادة أو نقصان ، أي دون حلّ..
* ربما ستعترف الأجيال القادمة أن هذا الجيل الأول قد أوصل الأمانة إلى أهلها سالمة آمنة من دون المساس بها..
تاريخ المستقبل: يتوارى صانعو التاريخ، تاريخهم الشخصي المرتبط بتاريخ مجتمعاتهم التي مكنتهم من صناعته في غالب الأحيان دون تكليف شعبي، عن الساحة كما هي قاعدة الحياة التي تطبق ديمقراطيتها الحتمية عليهم جميعا تاركة للزمن أحقية تمحيص ما لهم وما عليهم..
* يتوارون إذن، الواحد تلو الآخر، تاركين وراءهم ميراثا مُختَلَفاً حوله لأجيالٍ جديدةٍ متعطشةٍ إلى الحقيقة ومشتاقة إلى معرفة معنى 'قتل الأب' بسبب غيابه الطويل عنهم أو بسبب تعاليه وانقطاعه عنهم، أو بسبب تقريبه لبعضهم وتشريده للآخر في فترات هشّة وحساسة من تاريخ أُبوَّته لهم وبُنُوَّتهم له، ومتعطشة كذلك إلى إمكانية ترسيخ وجوده في صفحة الحاضر المُسَوَّدَة على عجالة أمام أعينهم وهم شباب مولعون بالضجيج لا يفقهون في 'وجوب تحقيق الفريضة' شيئا..
* هل يمكن للأجيال الجديدة من الجزائريين المتأهبين إلى عبور القرن الواحد والعشرين بما ورثوا عن آبائهم في ظل متغيرات عالمية جوهرية تهدد الذات والكيان واللغة، أن تطرح الأسئلة الجوهرية الناتئة في صفحة واقعهم الذي نشئوا فيه من دون أن يشكل ذلك صدمة لهم في اكتشاف المخبوء الضمني الذي وُزعت أسراره بين طيات المكتوب وحشرجات الشفوي وتمتمات المسكوت عنه في مراحل بناء الدولة الوطنية المستقلّة، ووُزِّعت تركته بين مذكرات الآباء التاريخيين المولعين بالتواضع أو المصابين بتضخم الأنا؟ وهل تملك هذه الأجيال أحقية طرح هذه الأسئلة ومشروعية الإجابة عنها بما يخوله لها تمكنها من الفهم العقلاني للحمل التاريخي الموروث من مرحلة نشوء الوعي الوطني باسترداد الكيان في بداية القرن العشرين إلى مرحلة الاستقلال؟ وهل تستطيع الأجيال الجديدة أن تفعل ما يتوجب عليها فعله بنظرة خالية من كل المنغصات التي رافقت صناعة تاريخ الاستقلال وشكلت عاملا جوهريا في تأزيم مساراته وتلغيم معالمها من دون ضغينة أو حقد أو حيلة، واضعةً في حسبانها التحديات الخطيرة التي تواجه الدور الذي خُوِّل لها لصناعة (تاريخ للمستقبل) برؤية واقعية مساواتيّة حرّة وأصيلة تراعي تأمين الحريات ورد المظالم وتنوير المستقبل؟
* هل تستطيع الأجيال الجديدة من الجزائريين أن تُحدث النقلة النوعية المرجوّة في تعاملها مع التاريخي من أجل تجاوز عُقَد التاريخ بصورة نهائية والانغراس في الرؤية المستقبلية الكفيلة بضمان سيرورة تاريخها في ما تنجزه من معالم يكون فيها للإنسان الدور الأساسي الضامن لاستمرارية الهوية الوطنية؟ أم أن هذا التاريخ (تاريخ المستقبل) سيبقى رهينة كما كان لفترات طويلة- في يد 'الفكرة التلفيقية' التي ستستولي على المستقبل من جديد بدعوى الوطنية وحماية الدولة وخوفا من أن تسقط هذه الأخيرة في مشاريع الخلايا النائمة للفكرة والفكرة المناوئة.
'
عبد القادر رابحي
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)