الجزائر

الأزل والأبد



فكرت طويلا في الموت وأنا مستلق على السرير في المستشفى: هل أصارعه؟ أم هل أقاضيه؟ وهل هو شخصية معنوية يمكن أن أجره إلى المحاكم؟ وهل ألف هل؟.. والأسئلة في مثل هذه الحال تلد الأسئلة الجهنمية ولا تكاد تفتح أبواب الجواب، بل تزداد لفحا مثل سعير الشمس في الفلاة، شديد القيظ، قليل الماء.ومن الطبيعي أن أرتحل عبر تاريخ الدين طمعا مني في استدرار بعض الأجوبة الشحيحة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. لكن، في غير طائل. وقد سبق لي أن أفردت فصلا خاصا لفكرة الموت في روايتي "دم الغزال"، تساءلت فيه عن فكرة الموت من وجهة نظر فلسفية، ثم أردفته بالحديث عن تجربة مريرة لي عشتها في بحر التسعينات من القرن الفائت، أيام كان الإرهاب يحصد كل شيء، لكنني خلصت إلى القول إن الله رحمان رحيم، وقد كتب على نفسه الرحمة. وعليه، فإن الموت، أيا ما كان شكله، وأيا ما كانت صورته، وأيا ما كانت وطأته، يظل مسألة رحمة في المقام الأول والأخير.
وعليه، فإن الموت ليس مسألة معقدة من مسائل الرياضيات، والسبب هو أنه لا يخضع للمنطق البشري، إنه أشبه ما يكون بفكرة الأزل والأبد، أي ما قبل وما بعد الزمن.
في خريف 1956، تعين علي أن أواجه الموت في قلب حينا، قام فدائي بمهاجمة مركز عسكري وطورد مطاردة جهنمية من قبل رجال المظلات، وكنا في تلك الأثناء نلعب في غابة حينا عندما سمعنا دوي الرشاشات، واتفقنا فيما بيننا على أن نلتحق بديارنا في أقرب وقت ممكن. غير أن العساكر كانوا قد حاصروا الحي كله، وحالوا بيننا وبين العودة إلى ديارنا. ولما أصررنا، قام عسكري بقذفنا بوابل من رشاشه، لكن، بصورة شاقولية، أي إن الرصاص مر بمحاذاتنا في خط عمودي شاقولي.
وفي يوم أول جانفي 1962، وفي حي "كليما دو فرانس" على الساعة الرابعة ظهرا، كنت مع صديقين من أبناء الحي نعبر الشارع المطل على حي باب الوادي، وسط العديد من السيارات المحروقة والشاحنات. وإذا بفرقة من ذوي القبعات الحمراء تحاصرنا، وإذا بأحدهم يضع مسدسه على قفاي ويسألني: كم أحرقت من سيارة؟ ثم انهال علي بعقب مسدسه فوقعت أرضا، بينما راح المتظاهرون من العمارات ومن الطرقات الفرعية يلقون بمختلف أنواع السباب على أولئك العساكر. ولولا أن رحمة الله أدرتنا نحن ثلاثتنا لكنا في عداد القتلى.
وفي مساء 31 جويلية من عام 1993، جاء من صوب لي مسدسه من القفا، غير أن الله عصم.
هذه المراحل العصيبة استعدتها أثناء فترة إقامتي بالمستشفى، لكنني لم أصل إلى نتيجة ترضيني، ولذلك ازددت اقتناعا بأن الموت رحمة، وبأن الله رحمان رحيم، كتب على نفسه الرحمة.
ومن ثم، تعين علي مرة أخرى أن أزداد إيمانا، وأن أردد في قرارة نفسي "واتقوا فإن خير الزاد التقوى"، الموت هو الأزل وهو الأبد في وقت واحد، والإنسان لا يدري عن هاتين الفسحتين الزمنيتين شيئا، هل هما مجرد فسحتين زمنيتين حقا وصدقا؟
وأدركت أيضا أن الفلسفة لا تجدي شيئا كلما تعلق الأمر بفكرة الموت. الفلسفة مجموعة من التساؤلات التي تلد تساؤلات أشد حرقة، وفكرة الموت ليست فكرة فلسفية في حدود تصوري.
وفكرت في القبر، وفي الإنسان وهو يثوي بداخله، وهل له أمل في أن يعود إلى هذا الوجود بأوسع معانيه. ويبدو أنني سأظل أنتظر الجواب على تساؤلاتي هذه.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)