الجزائر - A la une

هيكل وعصر المثقّف الأسطورة



هيكل وعصر المثقّف الأسطورة
هناك سؤال ملح يدق الرؤوس بعنف بعيد رحيل كاتب ومفكر بحجم محمد حسنين هيكل، وهو: هل انقضى عصر المثقف الأسطورة في عالمنا العربي برحيل هيكل؟ فالمهنية والاحترافية العالية لم تكونا البعد الوحيد في نموذج هيكل، لأن هالة القداسة التي نسجها حواريوه حوله بوصفه المرجع الأوحد الذي تفزع إليه الأمة والناس وسط الأزمات المستحكمة والتحديات الجسيمة والأخطار المحدقة، قد أحالت الرجل من مجرد كاتب موهوب ونابغ إلى أب رمزي مؤمثل ومعادل ثقافوي راهن لزعامة الراحل جمال عبدالناصر. فالأمر اللافت هنا، أن نموذج المثقف الميثولوجي ليس حكراً على الثقافة العربية وحدها، فأسطرة المثقف ظاهرة فكرية ومعرفية ظلت تثوي في العقل الغربي ذاته منذ مطلع الحداثة الباكر وحتى منتصف القرن العشرين. فالمثقف الحداثي، كما أشار الكاتب والمؤرخ الإنكليزي بول جونسون، في كتابه ”المثقفون”، كان على استعداد لأن يقول للبشرية كيف تدبر أمورها بوصفه صاحب واجب تبشيري يعمل من خلال تعاليمه على تقدم الإنسانية، مستخدماً في ذلك أسلوباً أكثر راديكالية من أسلوب رجل الدين الكهنوتي.لذلك، لم يكن غريباً أن يدمج المفكر الفرنسي المعاصر جوليان بيندا، السيد المسيح مع فولتير وسبينوزا وأرنست رينان بوصفهم جميعاً حلقات في سلسلة واحدة تؤكد في آن، الطابع الثقافوي للنبي والطابع النبوي للمثقف وفقاً لتعريفه الديني للمثقفين وأدوارهم في كتابه الشهير ”خيانة المثقفين”.إلا أن العقل الغربي فكَّك نموذج المثقف الأسطورة بفضل تطور تقاليده المعرفية والثقافية، وذلك من خلال تعامله بمرونة مع الضربات القوية والتغيرات العنيفة التي طاولت حركة الفكر منذ نهاية القرن التاسع عشر، حين وقعت أزمة الفلسفة الحديثة التي أنهت إلى الأبد الدور التبشيري الكهنوتي للمثقف بوصفه منقذاً للبشرية ومدشناً بتعاليمه الفكرية والفلسفية فردوساً أرضياً ينهي آلام المعذبين.وعند تلك النقطة، انتهت ظاهرة المرجع الأوحد في الثقافة الغربية، فأمام كل ميثولوجيا ثقافية نشأت ميثولوجيا مضادة. فأفكار هيغل تدحضها أطروحات العقلانية النقدية لكارل بوبر، والخطاب الحداثي التنويري لروسو وكانط تفككه مقولات ما بعد الحداثة، وهيمنة سارتر على الخطاب الثقافي الفرنسي تآكلت ببزوغ قطب مواز مثل ريمون آرون، ثم تآكلت أكثر فأكثر بارتداد التقليد الثقافي الفرنسي نحو الأكاديمية بفضل جهود كلود ليفي شتراوس.ومن هنا، ينبغي طرح التساؤل المُلح عن السردية الثقافية والسياسية المضادة الغائبة التي لا نجد لها ظلاً ولا تركنا لها موطئاً في مواجهة سردية هيكل، وتلك هي الإشكالية الكبرى في نموذج المثقف الأسطورة الطاغي على ثقافتنا العربية، لأنه ببساطة أوقعنا في جدلية تأليه المثقف مع تفريغ خطابه من مضمونه وتجريده من أدواته في الوقت ذاته. فإذا كان دور المثقف يستوجب مواجهة الجمود والتزمّت لا توليدهما وفق ما أشار المفكر الفلسطيني/ الأميركي إدوارد سعيد في كتابه ”صور المثقف”، فإنه ينبغي عليه أولاً أن يكون شخصاً غير قابل للاحتواء من جانب المؤسسات والحكومات، وأن يوضع ثانياً في إطار ظروفه الخاصة وتناقضاته التي لا تحرمه من أهليته كمثقف بقدر ما تقدمه ككائن إنساني معرَّض للخطأ وليس كواعظ أخلاقي كئيب.ومن ثم، فإن إلحاح تلاميذ الأستاذ هيكل على تقديمه دائماً باعتباره الظل الثقافي والمستشار السياسي المؤتمن للسلطة الناصرية مع تنزيهه أيضاً عن ثنائية الصواب والخطأ، قد خلق من الرجل أسطورة تقبع في مكان بعيد خارج كل سياقات التشكل الطبيعي والمعتاد للمثقف، متجاوزة كذلك الشرط الإنساني بضعفه وتناقضاته. وعليه، فقد حالت هالة القداسة تلك دون حدوث التمدد الصحي والطبيعي والعقلاني لنموذج هيكل أفقياً ببزوغ سردية مضادة لسرديته وقامات ترتفع لتوازي قامته أو رأسياً بتشكل أطروحات وأفكار طازجة تملأ فراغ هيكل، مجددةً في الوقت ذاته الخطاب الفكري والسياسي. وهو أمر كانت نتيجته الحتمية هي هذا التناقض المؤلم في المشهد الصحافي والإعلامي المصري، الذي يحتفي بهيكل إلى درجة التقديس وينكل في الوقت ذاته على الشاشات والصفحات بنموذج الكاتب المثقف المتكون، ليمتلئ فراغ هيكل بعد رحيله بالمدجلين والمشعوذين وأدعياء المعرفة وأنصاف المثقفين في مشهد لا يدعو إلا إلى الرثاء والحزن.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)