الجزائر - A la une

''صوتهم من القبور يناديكم فاسمعوا لهذا الصوت يا عباد..''



''صوتهم من القبور يناديكم فاسمعوا لهذا الصوت يا عباد..''
ونحن نحتفل بذكرى أول نوفمبر1954، أود من خلال هذا الموضوع أن أذكر بأحد الأحداث الهامة والمؤلمة في تاريخنا، والتي تكاد تُمحى أو مُحيت من ذاكرتنا، وهي اكتشاف المقبرة الجماعية سنة 1982 في مدينة خنشلة. أكثر من جيل لا يعرف وجود هذه المقبرة، نسينا أو تناسينا هذه الجريمة. أكثر من 1300 شهيد تنادينا أرواحهم ورميمهم من تحت قبورهم.
لقد تمّ اكتشاف هذه المقبرة في شهر فيفري 1982، أثناء عملية حفر عادية ليتمّ انتشال أكثر من 1200 شهيد، وقد أدّى هذا الاكتشاف إلى إحداث ضجّة كبيرة في فرنسا آنذاك، وتصدّر الحدث عناوين أكبر وسائل الإعلام الأجنبية المرئية والمكتوبة، ومن بينها جريدة ''ليبيراسيون''، التي أوفدت مراسليها وحقّقت في الموضوع باستجواب بعض المجاهدين والمناضلين في خنشلة، وكذلك بعض الضباط والجنود، وكذا المسؤولين الفرنسيين الذين كانوا يمارسون مهامهم في أوراس اللمامشة أثناء الثورة التحريرية، وبصفة خاصة في مدينة خنشلة. وقد حاول العديد من الضباط والمؤرّخين والمهتمين الفرنسيين، منذ ذلك التاريخ، إجراء أبحاث وتقصّيات لتبرئة القوات الاستعمارية، إلا أن كل جهودهم باءت بالفشل، وسأورد هنا مقتطفات مما كتبته جريدة ''ليبيراسيون''، الصادرة في 3 جوان 1982، والتي خصّصت أربعة أعداد متتالية للحدث. ''في 9 فيفري 1982 انتُشلت عدة جثث في مدينة خنشلة بالأوراس، منذ هذا التاريخ إلى 3 جوان 1981 انتشلت ألف جثة، بعضها بُتر بطريقة فظيعة. كانت هذه الجثث مردومة في سطح كان تابعا للجيش الفرنسي لأول مرة يتمّ اكتشاف مقبرة جماعية بهذه الأهمية، لقد التقينا بعض الأحياء، وصوّرنا وثائق إثبات، وتؤكّد هذه الوثائق أنه منذ سنة 1955 إلى سنة 1962 قام الجيش الفرنسي بتعذيب وتصفية مقاومي جيش التحرير، وكذا المواطنين المدنيين. في 9 فيفري 1982 أراد بعض تلاميذ مدرسة في مدينة خنشلة تهيئة مساحة للعب كرة القدم، فاكتشفوا جثثا على عمق متر واحد تحت الأرض. 936 جثة لرجال ونساء وأطفال تم انتشالها في مدة ثلاثة أشهر. منذ 6 سنوات، من بداية 1955 إلى 1962، مرّ بمركز خنشلة المحمي والمحاط بالأسلاك الشائكة مقاومو جيش التحرير الوطني وجبهة التحرير الوطني، اعتقلوا كلهم في إطار القمع الجماعي داخل هذا المركز. قام الجيش الفرنسي، التابع للمكتب الثاني واللفيف الأجنبي، برمي عشوائي للجثث دون عناء في محاولة لإخفائها''. هذا مقطع من تحقيق كتب تحت عنوان ''936 جثة جزائرية تتّهم فرنسا''، وقد نشرت الجريدة صورا لأدوات التعذيب وُجدت مع الهياكل العظمية لهذه المقبرة الجماعية، تبيّن هذه الأدوات ودون أي شكّ أن المقبرة الجماعية كانت حقّا مقبرة دُفن فيها المفقودون والمعدومون دون محاكمة. وقد صرّح أحد الحركى المعروفين في منطقة خنشلة، وهو ''السماتي'' للجريدة سنة 2891، بأن هناك مقبرة جماعية أخرى مماثلة داخل ثكنة الدرك في مدينة تبردقة، جنوب ولاية خنشلة، حيث كانت هذه الثكنة مقرا للواء 13 للفيف الأجنبي سنة 1956. فهل تمّ البحث لانتشال جثث هؤلاء الشهداء؟ اعتقد، وحسب المعلومات، أن هؤلاء الشهداء لا يزالون في خانة النسيان.. بل في خانة الزوال النهائي من الذاكرة.
معروف في كل بلدان العالم، وخاصة في البلد الذي يعدّ عند الكثير من الجزائريين نموذجا وقدوة، وهو فرنسا، أن مقابر الشهداء وضحايا الحروب تكون في مساحة مرئية، وفي موضع يجعلها تُرى بأكملها، حتى يشاهد العابر أو الزائر مدى التضحيات التي قدّمها البلد من أجل حريته، لكن عندنا، وبصفة خاصة، مقبرة الشهداء بخنشلة التي دُفن فيها 1300 شهيد، المنتشلين من المقبرة الجماعية المكتشفة سنة 1982. في هذه المدينة، التي يسميها أهلها ''مدينة الشهداء'' (وأسمّيها مدينة المغلوبين على أمرهم)، تمّ إعداد مقبرة الشهداء في مكان يدعو إلى الحيرة والتساؤل والاستغراب.
إن مكان مقبرة الشهداء أُعدّ داخل ''زرداب'' كبير يقع خارج المدينة، وفي وسط غابة بعيد كل البعد عن الأنظار، وكأن معدّيه أرادوا إخفاء عار لحق بمنطقتهم! أم خوفا وحماية لمرتكبي الجريمة. وبجانب هذه المقبرة بُني متحف! فمن يا ترى يزوره ومتى يُزار هذا المتحف؟ فهل يجب التذكير أنه من المفروض تواجد هذا المتحف داخل أو وسط المدينة. إنني استغرب من مصمّم هذا المشروع ومن المسؤول الذي وافق على بنائه في هذا المكان؟ وهل كان يعلم خطورة ما يفعله؟
أتساءل إن لم يكن مشروع دفن وإخفاء مقبرة الشهداء قد تمّ بالتنسيق مع مسؤولين على أعلى مستوى آنذاك. في تحقق دقيق جدا للسيد ''غير بيرفيلييه''، وهو مؤرّخ فرنسي له عدة كتب عن الثورة الجزائرية، اتصل الباحث بالعديد من العسكريين والمسؤولين المدنيين الفرنسيين أثناء مرحلة الثورة التحريرية، بحثا عن معلومات قد تنفي نسب هذه المجزرة إلى العسكريين الفرنسيين، لكن لا أحد منهم تمكّن من إثبات عدم ارتكاب هذه الجريمة، وقد أنهى الباحث تحقيقه بالقول ''إن وصول فرانسوا ميتيران إلى الحكم أدى إلى تحسين العلاقات الجزائرية الفرنسية، التي كانت متوتّرة جراء أزمة الصحراء الغربية، ورغبة في تهدئة العلاقات بين البلدين تمّ دفن الجثث المنتشلة مغطّاة بأعلام جزائرية دون اتهام فرنسا. ويضيف المؤرخ: ''إن هذا الموقف، الذي كان يبدو في ذلك الوقت إشارة ورغبة في التهدئة بين البلدين، أصبح اليوم غير مفهوم، خاصة وأن الجزائر تطالب، منذ سنة 1990، فرنسا بالاعتذار، ولكن دون استعمال خاصة ما يبدو أكبر اغتيال في الجزائر، وهو اكتشاف هذه المقبرة الجماعية''. صدر هذا البحث في 2 فيفري 2009 في موقع ''من أجل تاريخ حرب الجزائر'' (بالفرنسية).
بعد كل هذا نتساءل أين ما يسمى بالأسرة الثورية؟ أين منظّمات أبناء الشهداء؟ وجمعيات الحفاظ على الذاكرة؟ أين المسؤولون المحليون والمنتخبون على المستوى الوطني؟ هل من مسؤول أو رئيس زار هذه المقبرة؟ حسب معلوماتي لم أقرأ، ولو مرة واحدة، أن رئيسا أو وزيرا زار هذه المقبرة. كيف تُنسى أو تُتناسى جريمة كهذه، ونحن نتغنى بالمليون ونصف مليون شهيد، كيف ننسى وفرنسا تعمل، بكل جهدها، على طمس أفعالها الإجرامية، بل تمجّدها. إن تناسي هذه الجريمة، والسكوت عنها، يعدّ مساهمة في تمجيد الاستعمار الفرنسي، الذي ندّعي العمل على تجريمه، ولو بأصوات خافتة.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)