الجزائر - Théâtre

مصطفى كاتب.. الزوالي الذي ظلمته وردة الجزائرية



مصطفى كاتب.. الزوالي الذي ظلمته وردة الجزائرية
والده عبد العزيز لم يكن يملك بيتا
ولد مصطفى كاتب في 8 جويليه 1920 بسوق أهراس، لعائلة عريقة من قبيلة الحنانشة الذي كان لأبنائها دور كبير في المقاومة الأولى ضد الفرنسيين، والده عبد العزيز كان يتقن اللغة الفرنسية والعربية، بل كان شاعرا ومترجما. معالم طفولته هي زيتونة القديس أوغستين، ومسجد الشيخ سيدي مسعود بن أبي بكر الفاروقي. ولكن المعلومات التي جمعها كل من مخلوف بوكروح والشريف الأدرع تؤكد أن والده لم يكن يملك هذا البيت الذي ولد فيه مصطفى كاتب، وإنما توجد وثيقة الإيجار الخاصة بهذا المنزل بتاريخ 1919، هذا الأمر الذي يفسر في ما بعد نزوح عائلته إلى عنابة ثم قسنطينة وبعدها إلى الجزائر العاصمة، يقول مخلوف بوكروح:”هذه العائلة الثرية فكريا، لم تكن تملك حتى بيتا خاصا.. وهو ما يفسر سعيها الحقيقي إلى العلم والمعرفة على حساب الركض خلف المال والعقار..”.
هذا الأمر سوف يتكرر في حياة مصطفى كاتب، ويورث عن والده كل هذه اللامبالاة بشأن الدنيا ويهب حياته كاملة لخدمة فنه الراقي، حيث كان يعيش مصطفى كاتب بعد الاستقلال في شقة بالأبيار على الأغلب أنها شقة من ثلاث غرف مع خالته التي تكبره سنا. وعندما يأتي قرار التنازل عن الشقة لصالحه، يكتب الشقة باسم خالته ولا يبالي، كأنه يريد حياة الزهد التي لا تجعله يفكر في شيء سوى فنه وتحصيله الثقافي.. عن هذا الأمر يخبرنا مخلوف بوكروح: ”والله أتعجب من طريقة تفكير ذلك الرجل الذي رافقته طوال 20 سنة ولم أفهم كيف كان يؤثر كل شيء لصالح الآخرين، شقة الأبيار التي دخلتها مرات ومرات، كان يعيش فيها مع خالته ولكنه عندما صدر قرار التنازل كتبها باسم خالته، كان يفكر في مستقبل خالته أكثر من نفسه، وبالفعل وافته المنية في سنة 1989 وعاشت خالته بعده سنين طويلة..”.
فلسفة الحياة هذه ستجعل من مصطفى كاتب شخصية مميزة، لها ركائزها الروحية ولكن لها أعداؤها وحسادها أيضا.
الانسجام الكامل مع حياة العزوبية
طوال 69 سنة لم يرتبط مصطفى كاتب، ولم يدخل منظومة الزواج، بالتأكيد لسنا نعرف الأسباب الحقيقية وراء هذا ولكن رفيقه مخلوف بوكروح يقول إنه كان منسجما مع ذلك.
هذا الوسيم الذي عشقته النساء حتى الوله، لم يلتفت إلى ذاتية العائلة وقدم حياته بالكامل لفنه وجمهوره المسرحي.. حيث كان الإنطلاق نحو هذا العالم سنة 1939 عندما ترك مقاعد الدراسة الثانوية ويتفرغ بشكل كامل للحياة الفنية، فانخرط في فرقة المطربية لصاحبها محي الدين بشطارزي، وشارك في أعمال كثيرة هناك بصفته ممثلا. بعد ذلك أسس نواة الفرقة المسرحية الأولى والتي تحمل اسم ”ألف باء” برفقة كل من علال المحب، عبد الله نقلي، وسيد علي فرنانديل.. لكن التوقيت كان للحرب، ومدافع الحرب العالمية الثانية تعلو على كل أصوات الثقافة، فجند مصطفى كاتب تجنيدا إجباريا، غير أنه سيفر من كل ذلك الجحيم. كذلك اسم الفرقة المسرحية جميل جدا ويدل على وعي كبير أثناء تلك الفترة الأولى من الاستعمار، يوضح لنا السر دائما مخلوف بوكروح:”لم أر في حياتي شخصا يعشق العربية مثله، كان يتهجى ويبذل جهدا كبيرا من أجل قراءتها ولكنه كان يصر على أن نكتب كل شيء بالعربية، التقارير والرسائل والدعوات، كان يحب العربية كثيرا والدليل اسم فرقته الأولى ألف باء”.
مصطفى كاتب والانضمام إلى الثورة
بعد الحرب العالمية الأولى التحق مصطفى كاتب بفرقة ”المسرح العربي” لصاحبها محي الدين بشطارزي سنة 1947، وتقلد في تلك المرحلة مناصب عديدة من بينها الإخراج والتمثيل والتنسيق العام. ولكن هل يكتفي بهذا؟؟.
لقد وضع مصطفى كاتب يده على الجرح من أول الطريق وعرف أن النجاح الحقيقي لن يكون إلا بواسطة التكوين، وعلى هذا الأساس أنشأ فرقته الخاصة المسماة ”المسرح الجزائري” وجعلها عبارة عن ورشة حقيقية لتعليم أصول هذا الفن الدرامي لعدد من الشبان، وكافة الوجوه الشابة آنذاك أخذت مبادئها الأولى من هذه الفرقة، شاركت في مهرجانات دولية كثيرة، منها برلين سنة 1951، بوخاريست 1953، فارسوفيا 1955 بالإضافة إلى موسكو، حسبما يرصد لنا مخلوف بوكروح والشريف الادرع في كتابهما ”مصطفى كاتب من المسرح الوطني إلى المسرح الجزائري”. أثناء ذلك وبعد اندلاع ثورة التحرير عام 1954 ساندت هذه الفرقة جبهة التحرير الوطني، ولكن لظروف الحرب مرة أخرى يتوقف العمل ويختار المنفى إلى فرنسا بعد عمليات تضييق واسعة تأكد من خلالها المستعمر أن الرجل يقدم رسائل قوية تدعو إلى التحرر من خلال عروضه المسرحية.
تونس وأبناء القصبة
حياته في فرنسا كانت صعبة والمضايقات استمرت هناك أيضا، ولم يهدأ له بال حتى جاء نداء جبهة التحرير الوطني، حيث سيلتحق برفقة مجموعة من الفنانين إلى تونس ويكونوا فرقة فنية جزائرية تعبر رسميا عن الجزائر وعن جبهة التحرير، تقدم للرأي العام أفكارها بكل حرية وتركز على هويتها العربية الجزائرية الإسلامية، وهكذا كان ميلاد ”الفرقة الفنية الوطنية”.
يخبرنا مخلوف بوكروح:”المسرح وسيلة ثورية هامة، وفي الجزائر المسرح كان أول الفنون التي تبنت الفكر التحرري من خلال رسائل مشفرة كان يدسها الجميع في العروض المسرحية، وكان ذلك مبكرا جدا قبل إنشاء الفرقة الفنية الوطنية التي كان يقودها مصطفى كاتب، وهو بكامل هويته الجزائرية كان وفيا لمبادئ الثورة، فكانت الفرقة سفيرا حقيقيا للثورة، مهمتها التعريف بالقضية الجزائرية للعالم. وهنا كان العرض الأول من تأليف وإخراج مصطفى كاتب نفسه تحت عنوان ”نحو النور”، لتتوالى بعد ذلك مسرحيات عبد الحليم رايس ”أبناء القصبة”، ”الخالدون”، ”العهد” و”دم الأحرار”.
الحمد الله ما بقاش الاستعمار في بلادنا
بعد الاستقلال يقطع مصطفى كاتب على نفسه وعدا بالتشييد، فالجزائر والمسرح هو المرأة التي أحبها ولابد أن يكون مهرها غاليا. في هذه الفترة المتقدمة من الاستقلال أين كان الأشقاء يتقاتلون في الولاية الرابعة وضع مصطفى كاتب خطته الأولى، والتي كانت تتعلق بإنشاء معهد الفنون الدرامية ومجلة تابعة للمسرح بعنوان ”الحلقة”.
يؤكد لنا مخلوف بوكروح ثانية:”كان يدرك جيدا أن التقدم بالمسرح لن يكون بعدد المسرحيات وإنما بالتكوين، كان يعرف أن العصامية ليست حلا لكل الأدوار، وأن المسرح في العالم له قواعده وتقنياته التي يجب على الممثل الجزائري أن يتعلمها وينهل من المنهجية العلمية الخاصة بكل هذا، وعليه كان إنشاء معهد الفنون الدرامية وهو من أوائل المعاهد في الجزائر، فقد تم تدشينه مباشرة بعد الاستقلال، ولم يكن تابعا للتعليم العالي وإنما للمسرح مباشرة، وبالتأكيد لا يمكن تخيل حال المسرح والدراما من دون هذا المعهد الذي يعود فيه الفضل لهذا الرجل، والذي بالفعل يستحق أن يطلق المسرح باسمه، كذلك مجلة ”الحلقة” التي ساهمت في جذب كل الكتاب وفي التوثيق لحركة المسرح. هذا بالنسبة للتكوين، أما فيما يخص المسرح بحد ذاته فقد قلبه مصطفى كاتب رأسا على عقب، لأنه في الأساس عبارة عن أوبرا ذات تصميم إيطالي في الأساس وليس مسرحا، وعليه قام مصطفى كاتب بترميم قاعة المسرح، وبحذف الطابق الرابع الذي لم يكن يسمح بالرؤية الجيدة للعروض. كما قام بحذف حفرة الجوف الأوركسترالي التي كانت قبل ركح المسرح شأنها شأن التصميمات الخاصة بالأوبرات الأوروبية. كما قام باتفاق مع مؤسسة النقل الحضري لنقل الجمهور بعد العروض المسرحية.
بالتأكيد هذه الأفكار يحاول الكثير تطبيقها من دون جدوى ولكن هذا الكبير حققها في بدايات الستينيات. لا أحد يمكنه تخيل همه الكبير اتجاه المسرح، أنا أؤكد أن المسرح مدين لشخص مصطفى كاتب”.
”كان من الجميل ومن باب الاعتراف الراقي بالفضل أن يسمى المسرح الوطني باسمه، بدل شخص محيي الدين بشطارزي الذي كان له باع آخر في فنون أخرى”.. يردد هذا الدكتور مخلوف بوكروح، وهو يتحدث عن الشخصية المسرحية الجزائرية الكبيرة مصطفى كاتب.
مصطفى كاتب الذي قدم كامل حياته في خدمة المسرح الوطني، وفي التعريف بالقضية الوطنية قبل الاستقلال ثم بناء المشهد الثقافي الجزائري بعد الاستقلال لم يأخذ حقه كما ينبغي، ونحن نحتفل بخمسينية المسرح الجزائري.
أمور كثيرة حدثت معه، غصة كبيرة حملها معه طوال حياته حتى يوم 28 أكتوبر سنة 1989 أين نخر السرطان جسده، أسرار حملها معه، مع أنه كان يستحق الأفضل.. ولكننا لا نعطي لكل ذي حق حقه، نحن نقهر النجاح ونعتبره عدونا الأول
ليه يا وردة الجزائرية ليه..
بين سنة 1962 وسنة 1972 يقدم مصطفى كاتب أكثر من أربعين مسرحية، جزائرية وعالمية. وللذكر فإن الاقتباس في ذلك الزمن الجميل كان ذكيا ورائعا حيث يكون الإسقاط مباشرا على المجتمع الجزائري، ويتم تكييف كافة النص على المعطيات الجزائرية وبالتالي يمكن أن نسميه إعادة كتابة ثانية بمقومات جزائرية، عكس ما نراه اليوم ونشاهده. كما كان ينقل المسرحيات إلى كامل الجزائر العميقة وهناك وثائق موجودة إلى حد الآن تخبرنا كم قطعت هذا المسرحية من كلومترات.
يقول مخلوف بوكروح في كتابه عن هذه الفترة: ”أهم المسرحيات التي عكست توجه جزائر التحرير وكذا مساندة الحركات التحريرية في العالم هي مسرحية ”الرجل صاحب النعل المطاط” لمؤلفها كاتب ياسين، المسرحية هي اعتراف بنضال الشعب الفيتنامي بقيادة زعيمه هوشي منه. وللإشارة فإن العرض الأول حضره الرئيس هواري بومدين برفقة سفير الفيتنام في الجزائر”.
ولكن هل يمكن أن نتخيل أنه سيتم عزله في سنة 1972 من المسرح وينتقل بعدها إلى وزارة التعليم العالي؟؟
أسباب كثيرة كانت وراء ذلك، نجهل معظمها لأنه كما يعرف عنه رجل كتوم لا يؤذي أحدا ولم يتهم أحدا يوما.. ولكن في الذكرى العاشرة للاستقلال كان بصدد تحضير مسرحية خاصة حسب شهادة بوكروح، حيث يقول:”بالفعل جئنا للمشاركة في المسرحية ولكن تفاجأنا بإلغاء العرض”. ما الذي حدث حتى يلغى العرض..؟ وكيف تطورت الأمور بعدها حتى تم عزل مصطفى كاتب..؟؟. وعلى الرغم من رفض بوكروح اتهام وردة لكن مصادر كثيرة أخرى شفاهية بالتأكيد تروى الحادثة على الشكل التالي:
يقال إن الرئيس هواري بومدين طلب شخصيا من زوج وردة السماح لها بالغناء في الذكرى العاشرة لاستقلال الجزائر، فما كان من القصري إلا أن قال لوردة:”يمكنك الغناء بالتأكيد ولكن لا تغني باسمي..”. تقول وردة حول هذا الأمر في عدد من حواراتها التلفزيونية أنها فهمت أنه ينوي تطليقها قبل أن تبدأ في الغناء مجددا، ولأنها كانت تريد ذلك بدأت فعليا في التحضير للحفل الكبير. وأثناء هذه التحضيرات جاءت وردة مع فرقتها إلى المسرح من أجل التدريب، فالتقت مصطفى كاتب الذي أبدى تعجبه من هذا الأمر، ولم يسمح لها بالتدريب، وهكذا تصاعد الأمر. وجاءت وردة مرة أخرى من أجل التدريب بعد موافقة وزارة الثقافة، هنا تفاقم الوضع وتم عزل مصطفى كاتب من المسرح!.
للأمانة يؤكد لنا بوكروح أن الحكاية لم تكن فقط بسبب وردة وإنما هناك أمور أخرى كثيرة، لأنه نجح وأثبت تفوقه على الآخرين، وهذا ما جعله يسقط في غيرتهم الكبيرة.
وزارة التعليم العالي ومسرح الجامعة
حياة الفنان لا يمكنها أن تتحدد بمكان واحد، لأنه كما الحرية تستطيع أن تزهر في كل مكان ولا يخاف عليها من الضياع، بل ذلك الضياع في حد ذاته روحها العميقة..
وعليه تستمر رحلة الرجل بعد أن اقترحه الوزير محمد الصديق بن يحيى، أن يكون مستشارا مكلفا بالثقافة في وزارة العليم العالي والبحث العلمي. وفي هذا الصدد يقول الكثير من معاصريه أنه استلم منصبه من دون تحقيق وذلك بأمر من رئيس الجمهورية هوراي بومدين..
حمل مصطفى كاتب هواجس المسرح إلى الجامعة، وأحيا النشاط الثقافي الجامعي من خلال ندوات ومحاضرات كانت تقام في قاعة نفق جامعة الجزائر، جمع حوله عدد كبير من المثقفين الجزائرين، ونظم مهرجانا سنويا للقصة القصيرة والشعر، وملتقى الأدب والثورة، وأنشأ مجلة الثقافة والثورة. كما نظم دورات تدريبية للطلبة في مجال الفن الدرامي، وبهذا يرجع إليه الفضل في اكتشاف مواهب أدبية صارت اليوم قامات الأدب الجزائري.. واسيني الأعرج، أمين الزاوي، أحلام مستغانمي، عبد الحميد بواريو، الهاشمي سعيداني.. وآخرون.. حتى يقال إن رئيس الجمهورية قال لوزير الثقافة آنذاك:”الثقافة راهي عند التعليم العالي وأنت ماذا تفعل؟؟”.
هذا الدور الفذ الذي أسس فعليا لمسرح الجامعة في الجزائر كان وراءه رجل عظيم هو مصطفى كاتب.. ولكن ألم يكن يستحق أكثر؟؟ لماذا لم يعين كوزير للثقافة مثلا مادام الرئيس في حد ذاته اعترف له بجهوده، هل كانت هناك مؤامرات لا نعرفها كانت تقتل كل نجاح يقوم به الرجل؟.
يقول شريف الأدرع: ”هذا الرجل جمع بين الموهبة الفنية الفذة والتسيير الإداري الراقي، لذا من الصعب العثور على شخصية تشبهه، خاصة أنه يتمع بكاريزمة خاصة قوية وهادئة في ذات الوقت، كل الذين قدموا له الوجع لم يقدم لهم إلا الحب، والله لا يمكن تخيل المساعدات التي كان يقدمها لتلاميذه ولجميع من يقصده، أنا أؤكد لك أن جميع المسرحيين والأدباء الذين نعرفهم الآن مصطفى كاتب هو الذي صنعهم.. ولكن بالمقابل ماذا جنى هو من كل ذلك.. كان في كل مرة ينجح في مكان ما يتركه للذين يحطمون النجاح والإرادة.. لقد عانى معاناة شديدة، وأكثر الذين أوجعوه هم تلاميذه..
مصطفى كاتب والمجلس الشعبي لمدينة الجزائر
سنة 1985، أربع سنوات قبل وفاته، يتولى مصطفى كاتب مهمة تنشيط الحياة الثقافية في مدينة الجزائر.. الرجل الذي ترك المسرح منذ أكثر من عشرين سنة تتوزع جهوده بين الوزارات والبلديات.. لاشك أنه يعاني.. ولكن مع كل ذلك لا يبخل عن تقديم كل ما يستطيع من أجل بناء مشروع ثقافي جديد.
هذه المرة المشروع هو مدينة الجزائر، والهدف هو تحقيق منشآت ثقافية تكون بالمستوى المطلوب.. في هذا السياق يقول مخلوف بوكروح في كتابه ”مصطفى كاتب من المسرح الجزائري إلى المسرح الوطني”: ”تمكن من وضع تصور طموح استهله بوضع أسس العمل الثقافي انطلاقا من التحضير لبناء هياكل وفضاءات ثقافية (المعهد البلدي للموسيقى والمسرح، خمس مركبات ثقافية.. حسين داي، القبة، حيدرة، الأبيار ووادي قريش) وساهم في وضع تصور لأوبرا الجزائر ضمن مشروع الحامة، كما نظم ملتقى دوليا حول:”العالم الثالث في مواجهة التحديات المعاصرة” في سبتمبر 1897. ليس سيئا ما قام به على الإطلاق، ولكن بعض هذه المشاريع استولت عليها من بعده وزارتا الدفاع والرياضة.. ولم تجد الثقافة حقها من كل ذلك التعب الذي عاشه مصطفى كاتب.
العودة الميتة إلى المسرح
سنة 1988 يعود مصطفى كاتب إلى المسرح.. بعد غياب يقارب ثلاثة عقود، بعد أن تلوث المسرح بكل الذين لم يكفوا عن العمل وفق الفوضى واللامنهجية، يعود صاحب المنهجية والرأي السديد ولا يكف رغم كل ذلك على خلق التحدي.. لكنه مريض؟؟
كان السرطان قد بدأ يغزو جسده وبدأ بالعلاج في مستشفى مصطفى باشا.. بعد أقل من سنة التحق للعلاج في فرنسا عند أقاربه هناك.. ولكنه عاد جثة هامدة جنبا إلى جنب مع كاتب ياسين..
لا نعرف لماذا جمع القدر الرجلين بعدما كانا قد عملا سويا في مسرحية ”الرجل صاحب نعل المطاط”، ربما النهايات متشابهة، وآل الكاتب مكانهم هناك في الجنة بعيدا عن عذاب الحاقدين والحاسدين، وربما هناك نجمة ما ستضيء من جديد.

من مقولات مصطفى كاتب
”أفهم من ذلك الواقعية التي تندد بالانحطاط وتبني المستقبل، ستتجنب الوقوع في المثالية الساذجة والتفاؤل الأخرق، أضرب مثلا بمسرحية ”الغولة” التي تندد بالتسيير السيء للجان التسيير، لأن من قال الفن الدرامي قال وجود الصراع”.
”ما هو المسرح الهاوي؟ يتحدث الكثيرون عنه دون إعطاء تعريف له، يوجد غموض في كلمة هاو الدلالة اللغوية لكلمة ”هاو” تعني محب لشيء ما، نحن إذن جميعا هواة دون أن نكون بذلك محترفين، الوجه الحقيقي لمسرح الهواة في العالم هو المسرح الجامعي مثلا، هذا المسرح يضيف كثيرا لأن الجامعيين يمتلكون عموما تكوينا واسعا، وعندما يهتمون بشيء ما يتعمقون فيه.”
”وظيفة المسرح أن يساعدنا في التعرف أحسن، وهي مفيدة لأنها تسمح لنا بتقدير القيم الإنسانية، ولأجل أن يضطلع مسرح ما بهذه المهمة يجب عليه الاستجابة إلى حاجيات الجماهير، إن الجماهير العربية لمنشغلة بالكفاح الذي يجب عليها خوضه ضد أعداء تقدم وسعادة الشعوب الذين لا يمكن أن يتصورا إلا في مجتمع حر وسيد لمصيره، والجماهير العربية منشغلة أيضا بتحرير الأراضي المحتلة، إن مسرحا لا يجيب عن القضايا التي تشغل الجماهير يبتعد عنها.”
”إن مسرح الرسالة ليس إلا صيغة، المسرح بالنسبة إلينا هو الحياة من دون تضحية، مع ذلك بالجانب الاحتجاجي ولكنه قبل كل ذلك مغذي”
”يجب أن يلتقي المسرح الوطني الجزائري ذي التعبير الفرنسي بمتلقيه الحقيقيين الذين هم الجزائريون”.
”اللغة.. إنها قضية مزيفة، وأرى أنه لا ينبغي الوقوف هنا، في الوقت الراهن يعبر مسرحنا باللغة الدارجة، لكن هذا لا يعني القول أنه سيظل كذلك دائما، جمهور اليوم لن يكون هو نفسه في عشر سنوات مثلا، ففي ذلك اليوم يمكن للمسرح أن يمثل بالعربية الأدبية”.
إعداد: هاجر قويدري
والده عبد العزيز لم يكن يملك بيتا
ولد مصطفى كاتب في 8 جويليه 1920 بسوق أهراس، لعائلة عريقة من قبيلة الحنانشة الذي كان لأبنائها دور كبير في المقاومة الأولى ضد الفرنسيين، والده عبد العزيز كان يتقن اللغة الفرنسية والعربية، بل كان شاعرا ومترجما. معالم طفولته هي زيتونة القديس أوغستين، ومسجد الشيخ سيدي مسعود بن أبي بكر الفاروقي. ولكن المعلومات التي جمعها كل من مخلوف بوكروح والشريف الأدرع تؤكد أن والده لم يكن يملك هذا البيت الذي ولد فيه مصطفى كاتب، وإنما توجد وثيقة الإيجار الخاصة بهذا المنزل بتاريخ 1919، هذا الأمر الذي يفسر في ما بعد نزوح عائلته إلى عنابة ثم قسنطينة وبعدها إلى الجزائر العاصمة، يقول مخلوف بوكروح:”هذه العائلة الثرية فكريا، لم تكن تملك حتى بيتا خاصا.. وهو ما يفسر سعيها الحقيقي إلى العلم والمعرفة على حساب الركض خلف المال والعقار..”.
هذا الأمر سوف يتكرر في حياة مصطفى كاتب، ويورث عن والده كل هذه اللامبالاة بشأن الدنيا ويهب حياته كاملة لخدمة فنه الراقي، حيث كان يعيش مصطفى كاتب بعد الاستقلال في شقة بالأبيار على الأغلب أنها شقة من ثلاث غرف مع خالته التي تكبره سنا. وعندما يأتي قرار التنازل عن الشقة لصالحه، يكتب الشقة باسم خالته ولا يبالي، كأنه يريد حياة الزهد التي لا تجعله يفكر في شيء سوى فنه وتحصيله الثقافي.. عن هذا الأمر يخبرنا مخلوف بوكروح: ”والله أتعجب من طريقة تفكير ذلك الرجل الذي رافقته طوال 20 سنة ولم أفهم كيف كان يؤثر كل شيء لصالح الآخرين، شقة الأبيار التي دخلتها مرات ومرات، كان يعيش فيها مع خالته ولكنه عندما صدر قرار التنازل كتبها باسم خالته، كان يفكر في مستقبل خالته أكثر من نفسه، وبالفعل وافته المنية في سنة 1989 وعاشت خالته بعده سنين طويلة..”.
فلسفة الحياة هذه ستجعل من مصطفى كاتب شخصية مميزة، لها ركائزها الروحية ولكن لها أعداؤها وحسادها أيضا.
الانسجام الكامل مع حياة العزوبية
طوال 69 سنة لم يرتبط مصطفى كاتب، ولم يدخل منظومة الزواج، بالتأكيد لسنا نعرف الأسباب الحقيقية وراء هذا ولكن رفيقه مخلوف بوكروح يقول إنه كان منسجما مع ذلك.
هذا الوسيم الذي عشقته النساء حتى الوله، لم يلتفت إلى ذاتية العائلة وقدم حياته بالكامل لفنه وجمهوره المسرحي.. حيث كان الإنطلاق نحو هذا العالم سنة 1939 عندما ترك مقاعد الدراسة الثانوية ويتفرغ بشكل كامل للحياة الفنية، فانخرط في فرقة المطربية لصاحبها محي الدين بشطارزي، وشارك في أعمال كثيرة هناك بصفته ممثلا. بعد ذلك أسس نواة الفرقة المسرحية الأولى والتي تحمل اسم ”ألف باء” برفقة كل من علال المحب، عبد الله نقلي، وسيد علي فرنانديل.. لكن التوقيت كان للحرب، ومدافع الحرب العالمية الثانية تعلو على كل أصوات الثقافة، فجند مصطفى كاتب تجنيدا إجباريا، غير أنه سيفر من كل ذلك الجحيم. كذلك اسم الفرقة المسرحية جميل جدا ويدل على وعي كبير أثناء تلك الفترة الأولى من الاستعمار، يوضح لنا السر دائما مخلوف بوكروح:”لم أر في حياتي شخصا يعشق العربية مثله، كان يتهجى ويبذل جهدا كبيرا من أجل قراءتها ولكنه كان يصر على أن نكتب كل شيء بالعربية، التقارير والرسائل والدعوات، كان يحب العربية كثيرا والدليل اسم فرقته الأولى ألف باء”.
مصطفى كاتب والانضمام إلى الثورة
بعد الحرب العالمية الأولى التحق مصطفى كاتب بفرقة ”المسرح العربي” لصاحبها محي الدين بشطارزي سنة 1947، وتقلد في تلك المرحلة مناصب عديدة من بينها الإخراج والتمثيل والتنسيق العام. ولكن هل يكتفي بهذا؟؟.
لقد وضع مصطفى كاتب يده على الجرح من أول الطريق وعرف أن النجاح الحقيقي لن يكون إلا بواسطة التكوين، وعلى هذا الأساس أنشأ فرقته الخاصة المسماة ”المسرح الجزائري” وجعلها عبارة عن ورشة حقيقية لتعليم أصول هذا الفن الدرامي لعدد من الشبان، وكافة الوجوه الشابة آنذاك أخذت مبادئها الأولى من هذه الفرقة، شاركت في مهرجانات دولية كثيرة، منها برلين سنة 1951، بوخاريست 1953، فارسوفيا 1955 بالإضافة إلى موسكو، حسبما يرصد لنا مخلوف بوكروح والشريف الادرع في كتابهما ”مصطفى كاتب من المسرح الوطني إلى المسرح الجزائري”. أثناء ذلك وبعد اندلاع ثورة التحرير عام 1954 ساندت هذه الفرقة جبهة التحرير الوطني، ولكن لظروف الحرب مرة أخرى يتوقف العمل ويختار المنفى إلى فرنسا بعد عمليات تضييق واسعة تأكد من خلالها المستعمر أن الرجل يقدم رسائل قوية تدعو إلى التحرر من خلال عروضه المسرحية.
تونس وأبناء القصبة
حياته في فرنسا كانت صعبة والمضايقات استمرت هناك أيضا، ولم يهدأ له بال حتى جاء نداء جبهة التحرير الوطني، حيث سيلتحق برفقة مجموعة من الفنانين إلى تونس ويكونوا فرقة فنية جزائرية تعبر رسميا عن الجزائر وعن جبهة التحرير، تقدم للرأي العام أفكارها بكل حرية وتركز على هويتها العربية الجزائرية الإسلامية، وهكذا كان ميلاد ”الفرقة الفنية الوطنية”.
يخبرنا مخلوف بوكروح:”المسرح وسيلة ثورية هامة، وفي الجزائر المسرح كان أول الفنون التي تبنت الفكر التحرري من خلال رسائل مشفرة كان يدسها الجميع في العروض المسرحية، وكان ذلك مبكرا جدا قبل إنشاء الفرقة الفنية الوطنية التي كان يقودها مصطفى كاتب، وهو بكامل هويته الجزائرية كان وفيا لمبادئ الثورة، فكانت الفرقة سفيرا حقيقيا للثورة، مهمتها التعريف بالقضية الجزائرية للعالم. وهنا كان العرض الأول من تأليف وإخراج مصطفى كاتب نفسه تحت عنوان ”نحو النور”، لتتوالى بعد ذلك مسرحيات عبد الحليم رايس ”أبناء القصبة”، ”الخالدون”، ”العهد” و”دم الأحرار”.
الحمد الله ما بقاش الاستعمار في بلادنا
بعد الاستقلال يقطع مصطفى كاتب على نفسه وعدا بالتشييد، فالجزائر والمسرح هو المرأة التي أحبها ولابد أن يكون مهرها غاليا. في هذه الفترة المتقدمة من الاستقلال أين كان الأشقاء يتقاتلون في الولاية الرابعة وضع مصطفى كاتب خطته الأولى، والتي كانت تتعلق بإنشاء معهد الفنون الدرامية ومجلة تابعة للمسرح بعنوان ”الحلقة”.
يؤكد لنا مخلوف بوكروح ثانية:”كان يدرك جيدا أن التقدم بالمسرح لن يكون بعدد المسرحيات وإنما بالتكوين، كان يعرف أن العصامية ليست حلا لكل الأدوار، وأن المسرح في العالم له قواعده وتقنياته التي يجب على الممثل الجزائري أن يتعلمها وينهل من المنهجية العلمية الخاصة بكل هذا، وعليه كان إنشاء معهد الفنون الدرامية وهو من أوائل المعاهد في الجزائر، فقد تم تدشينه مباشرة بعد الاستقلال، ولم يكن تابعا للتعليم العالي وإنما للمسرح مباشرة، وبالتأكيد لا يمكن تخيل حال المسرح والدراما من دون هذا المعهد الذي يعود فيه الفضل لهذا الرجل، والذي بالفعل يستحق أن يطلق المسرح باسمه، كذلك مجلة ”الحلقة” التي ساهمت في جذب كل الكتاب وفي التوثيق لحركة المسرح. هذا بالنسبة للتكوين، أما فيما يخص المسرح بحد ذاته فقد قلبه مصطفى كاتب رأسا على عقب، لأنه في الأساس عبارة عن أوبرا ذات تصميم إيطالي في الأساس وليس مسرحا، وعليه قام مصطفى كاتب بترميم قاعة المسرح، وبحذف الطابق الرابع الذي لم يكن يسمح بالرؤية الجيدة للعروض. كما قام بحذف حفرة الجوف الأوركسترالي التي كانت قبل ركح المسرح شأنها شأن التصميمات الخاصة بالأوبرات الأوروبية. كما قام باتفاق مع مؤسسة النقل الحضري لنقل الجمهور بعد العروض المسرحية.
بالتأكيد هذه الأفكار يحاول الكثير تطبيقها من دون جدوى ولكن هذا الكبير حققها في بدايات الستينيات. لا أحد يمكنه تخيل همه الكبير اتجاه المسرح، أنا أؤكد أن المسرح مدين لشخص مصطفى كاتب”.
”كان من الجميل ومن باب الاعتراف الراقي بالفضل أن يسمى المسرح الوطني باسمه، بدل شخص محيي الدين بشطارزي الذي كان له باع آخر في فنون أخرى”.. يردد هذا الدكتور مخلوف بوكروح، وهو يتحدث عن الشخصية المسرحية الجزائرية الكبيرة مصطفى كاتب.
مصطفى كاتب الذي قدم كامل حياته في خدمة المسرح الوطني، وفي التعريف بالقضية الوطنية قبل الاستقلال ثم بناء المشهد الثقافي الجزائري بعد الاستقلال لم يأخذ حقه كما ينبغي، ونحن نحتفل بخمسينية المسرح الجزائري.
أمور كثيرة حدثت معه، غصة كبيرة حملها معه طوال حياته حتى يوم 28 أكتوبر سنة 1989 أين نخر السرطان جسده، أسرار حملها معه، مع أنه كان يستحق الأفضل.. ولكننا لا نعطي لكل ذي حق حقه، نحن نقهر النجاح ونعتبره عدونا الأول
ليه يا وردة الجزائرية ليه..
بين سنة 1962 وسنة 1972 يقدم مصطفى كاتب أكثر من أربعين مسرحية، جزائرية وعالمية. وللذكر فإن الاقتباس في ذلك الزمن الجميل كان ذكيا ورائعا حيث يكون الإسقاط مباشرا على المجتمع الجزائري، ويتم تكييف كافة النص على المعطيات الجزائرية وبالتالي يمكن أن نسميه إعادة كتابة ثانية بمقومات جزائرية، عكس ما نراه اليوم ونشاهده. كما كان ينقل المسرحيات إلى كامل الجزائر العميقة وهناك وثائق موجودة إلى حد الآن تخبرنا كم قطعت هذا المسرحية من كلومترات.
يقول مخلوف بوكروح في كتابه عن هذه الفترة: ”أهم المسرحيات التي عكست توجه جزائر التحرير وكذا مساندة الحركات التحريرية في العالم هي مسرحية ”الرجل صاحب النعل المطاط” لمؤلفها كاتب ياسين، المسرحية هي اعتراف بنضال الشعب الفيتنامي بقيادة زعيمه هوشي منه. وللإشارة فإن العرض الأول حضره الرئيس هواري بومدين برفقة سفير الفيتنام في الجزائر”.
ولكن هل يمكن أن نتخيل أنه سيتم عزله في سنة 1972 من المسرح وينتقل بعدها إلى وزارة التعليم العالي؟؟
أسباب كثيرة كانت وراء ذلك، نجهل معظمها لأنه كما يعرف عنه رجل كتوم لا يؤذي أحدا ولم يتهم أحدا يوما.. ولكن في الذكرى العاشرة للاستقلال كان بصدد تحضير مسرحية خاصة حسب شهادة بوكروح، حيث يقول:”بالفعل جئنا للمشاركة في المسرحية ولكن تفاجأنا بإلغاء العرض”. ما الذي حدث حتى يلغى العرض..؟ وكيف تطورت الأمور بعدها حتى تم عزل مصطفى كاتب..؟؟. وعلى الرغم من رفض بوكروح اتهام وردة لكن مصادر كثيرة أخرى شفاهية بالتأكيد تروى الحادثة على الشكل التالي:
يقال إن الرئيس هواري بومدين طلب شخصيا من زوج وردة السماح لها بالغناء في الذكرى العاشرة لاستقلال الجزائر، فما كان من القصري إلا أن قال لوردة:”يمكنك الغناء بالتأكيد ولكن لا تغني باسمي..”. تقول وردة حول هذا الأمر في عدد من حواراتها التلفزيونية أنها فهمت أنه ينوي تطليقها قبل أن تبدأ في الغناء مجددا، ولأنها كانت تريد ذلك بدأت فعليا في التحضير للحفل الكبير. وأثناء هذه التحضيرات جاءت وردة مع فرقتها إلى المسرح من أجل التدريب، فالتقت مصطفى كاتب الذي أبدى تعجبه من هذا الأمر، ولم يسمح لها بالتدريب، وهكذا تصاعد الأمر. وجاءت وردة مرة أخرى من أجل التدريب بعد موافقة وزارة الثقافة، هنا تفاقم الوضع وتم عزل مصطفى كاتب من المسرح!.
للأمانة يؤكد لنا بوكروح أن الحكاية لم تكن فقط بسبب وردة وإنما هناك أمور أخرى كثيرة، لأنه نجح وأثبت تفوقه على الآخرين، وهذا ما جعله يسقط في غيرتهم الكبيرة.
وزارة التعليم العالي ومسرح الجامعة
حياة الفنان لا يمكنها أن تتحدد بمكان واحد، لأنه كما الحرية تستطيع أن تزهر في كل مكان ولا يخاف عليها من الضياع، بل ذلك الضياع في حد ذاته روحها العميقة..
وعليه تستمر رحلة الرجل بعد أن اقترحه الوزير محمد الصديق بن يحيى، أن يكون مستشارا مكلفا بالثقافة في وزارة العليم العالي والبحث العلمي. وفي هذا الصدد يقول الكثير من معاصريه أنه استلم منصبه من دون تحقيق وذلك بأمر من رئيس الجمهورية هوراي بومدين..
حمل مصطفى كاتب هواجس المسرح إلى الجامعة، وأحيا النشاط الثقافي الجامعي من خلال ندوات ومحاضرات كانت تقام في قاعة نفق جامعة الجزائر، جمع حوله عدد كبير من المثقفين الجزائرين، ونظم مهرجانا سنويا للقصة القصيرة والشعر، وملتقى الأدب والثورة، وأنشأ مجلة الثقافة والثورة. كما نظم دورات تدريبية للطلبة في مجال الفن الدرامي، وبهذا يرجع إليه الفضل في اكتشاف مواهب أدبية صارت اليوم قامات الأدب الجزائري.. واسيني الأعرج، أمين الزاوي، أحلام مستغانمي، عبد الحميد بواريو، الهاشمي سعيداني.. وآخرون.. حتى يقال إن رئيس الجمهورية قال لوزير الثقافة آنذاك:”الثقافة راهي عند التعليم العالي وأنت ماذا تفعل؟؟”.
هذا الدور الفذ الذي أسس فعليا لمسرح الجامعة في الجزائر كان وراءه رجل عظيم هو مصطفى كاتب.. ولكن ألم يكن يستحق أكثر؟؟ لماذا لم يعين كوزير للثقافة مثلا مادام الرئيس في حد ذاته اعترف له بجهوده، هل كانت هناك مؤامرات لا نعرفها كانت تقتل كل نجاح يقوم به الرجل؟.
يقول شريف الأدرع: ”هذا الرجل جمع بين الموهبة الفنية الفذة والتسيير الإداري الراقي، لذا من الصعب العثور على شخصية تشبهه، خاصة أنه يتمع بكاريزمة خاصة قوية وهادئة في ذات الوقت، كل الذين قدموا له الوجع لم يقدم لهم إلا الحب، والله لا يمكن تخيل المساعدات التي كان يقدمها لتلاميذه ولجميع من يقصده، أنا أؤكد لك أن جميع المسرحيين والأدباء الذين نعرفهم الآن مصطفى كاتب هو الذي صنعهم.. ولكن بالمقابل ماذا جنى هو من كل ذلك.. كان في كل مرة ينجح في مكان ما يتركه للذين يحطمون النجاح والإرادة.. لقد عانى معاناة شديدة، وأكثر الذين أوجعوه هم تلاميذه..
مصطفى كاتب والمجلس الشعبي لمدينة الجزائر
سنة 1985، أربع سنوات قبل وفاته، يتولى مصطفى كاتب مهمة تنشيط الحياة الثقافية في مدينة الجزائر.. الرجل الذي ترك المسرح منذ أكثر من عشرين سنة تتوزع جهوده بين الوزارات والبلديات.. لاشك أنه يعاني.. ولكن مع كل ذلك لا يبخل عن تقديم كل ما يستطيع من أجل بناء مشروع ثقافي جديد.
هذه المرة المشروع هو مدينة الجزائر، والهدف هو تحقيق منشآت ثقافية تكون بالمستوى المطلوب.. في هذا السياق يقول مخلوف بوكروح في كتابه ”مصطفى كاتب من المسرح الجزائري إلى المسرح الوطني”: ”تمكن من وضع تصور طموح استهله بوضع أسس العمل الثقافي انطلاقا من التحضير لبناء هياكل وفضاءات ثقافية (المعهد البلدي للموسيقى والمسرح، خمس مركبات ثقافية.. حسين داي، القبة، حيدرة، الأبيار ووادي قريش) وساهم في وضع تصور لأوبرا الجزائر ضمن مشروع الحامة، كما نظم ملتقى دوليا حول:”العالم الثالث في مواجهة التحديات المعاصرة” في سبتمبر 1897. ليس سيئا ما قام به على الإطلاق، ولكن بعض هذه المشاريع استولت عليها من بعده وزارتا الدفاع والرياضة.. ولم تجد الثقافة حقها من كل ذلك التعب الذي عاشه مصطفى كاتب.
العودة الميتة إلى المسرح
سنة 1988 يعود مصطفى كاتب إلى المسرح.. بعد غياب يقارب ثلاثة عقود، بعد أن تلوث المسرح بكل الذين لم يكفوا عن العمل وفق الفوضى واللامنهجية، يعود صاحب المنهجية والرأي السديد ولا يكف رغم كل ذلك على خلق التحدي.. لكنه مريض؟؟
كان السرطان قد بدأ يغزو جسده وبدأ بالعلاج في مستشفى مصطفى باشا.. بعد أقل من سنة التحق للعلاج في فرنسا عند أقاربه هناك.. ولكنه عاد جثة هامدة جنبا إلى جنب مع كاتب ياسين..
لا نعرف لماذا جمع القدر الرجلين بعدما كانا قد عملا سويا في مسرحية ”الرجل صاحب نعل المطاط”، ربما النهايات متشابهة، وآل الكاتب مكانهم هناك في الجنة بعيدا عن عذاب الحاقدين والحاسدين، وربما هناك نجمة ما ستضيء من جديد.

من مقولات مصطفى كاتب
”أفهم من ذلك الواقعية التي تندد بالانحطاط وتبني المستقبل، ستتجنب الوقوع في المثالية الساذجة والتفاؤل الأخرق، أضرب مثلا بمسرحية ”الغولة” التي تندد بالتسيير السيء للجان التسيير، لأن من قال الفن الدرامي قال وجود الصراع”.
”ما هو المسرح الهاوي؟ يتحدث الكثيرون عنه دون إعطاء تعريف له، يوجد غموض في كلمة هاو الدلالة اللغوية لكلمة ”هاو” تعني محب لشيء ما، نحن إذن جميعا هواة دون أن نكون بذلك محترفين، الوجه الحقيقي لمسرح الهواة في العالم هو المسرح الجامعي مثلا، هذا المسرح يضيف كثيرا لأن الجامعيين يمتلكون عموما تكوينا واسعا، وعندما يهتمون بشيء ما يتعمقون فيه.”
”وظيفة المسرح أن يساعدنا في التعرف أحسن، وهي مفيدة لأنها تسمح لنا بتقدير القيم الإنسانية، ولأجل أن يضطلع مسرح ما بهذه المهمة يجب عليه الاستجابة إلى حاجيات الجماهير، إن الجماهير العربية لمنشغلة بالكفاح الذي يجب عليها خوضه ضد أعداء تقدم وسعادة الشعوب الذين لا يمكن أن يتصورا إلا في مجتمع حر وسيد لمصيره، والجماهير العربية منشغلة أيضا بتحرير الأراضي المحتلة، إن مسرحا لا يجيب عن القضايا التي تشغل الجماهير يبتعد عنها.”
”إن مسرح الرسالة ليس إلا صيغة، المسرح بالنسبة إلينا هو الحياة من دون تضحية، مع ذلك بالجانب الاحتجاجي ولكنه قبل كل ذلك مغذي”
”يجب أن يلتقي المسرح الوطني الجزائري ذي التعبير الفرنسي بمتلقيه الحقيقيين الذين هم الجزائريون”.
”اللغة.. إنها قضية مزيفة، وأرى أنه لا ينبغي الوقوف هنا، في الوقت الراهن يعبر مسرحنا باللغة الدارجة، لكن هذا لا يعني القول أنه سيظل كذلك دائما، جمهور اليوم لن يكون هو نفسه في عشر سنوات مثلا، ففي ذلك اليوم يمكن للمسرح أن يمثل بالعربية الأدبية”.

سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)