معسكر

الإمام القائد مُحيي الدين بن المصطفى والد الأمير عبد القادر



الإمام القائد مُحيي الدين بن المصطفى والد الأمير عبد القادر


هو أول قائد جزائري أجمع عليه أهل الحل والعقد، وأكثرية أعيان القبائل الجزائرية، وأسرعوا إلى مبايعته على إمارة البلاد، بعد انهيار سلطة داي مدينة الجزائر، وداي وهران وعنابة، وتسليمهم المدن للفرنسيين…
ولكن الإمام محيي الدين رفض الإمارة بإصرار قطعي، واكتفى بقيادة سرايا المقاومة في ثلاث معارك، انتصر فيها كلها وهي : واقعة خنق النطاح الأولى والثانية،وبرج رأس العين…
وبعد أن عجز القوم عن إيجاد أمير للبلاد، يتقبَّل هذا المنصب الضروري، ويستطيع تحمُّل أعبائه، أحال الإمام محيي الدين بيعته إلى الأجدر من أبنائه الستة، بعد أن غرس فيهم اللبنةَ الأولى للجهاد الحربي والسياسي والثقافي…
وُلد الإمام المجاهد محيي الدين، 1190 هـ، وتوفِّي في ربيع الأوَّل، سنة 1249 هـ، 1833 م، ودُفن في مقبرة جده الثالث سيدي قادة، وكان رحمه الله في العقد الخامس من عمره حين توفِّي، ويعني هذا أنه لم يعمَّر طويلاً…
كان رحمه الله متفنِّنًا في العلوم، مرجوعًا إليه في المنطوق والمفهوم، وإليه تُشَدُّ الرحال، لتدريس الأذكار وتلقينها، مقصودًا لأجلها من الضواحي والأمصار، تابعًا للسنَّة المطهرة، مُحَبِّبًا في العلم وأهله، مشتغلًا بربِّه قلبًا وسمعًا، مُعرِضًا عن الدنيا تطبُّعًا وطبعًا، له علوٌ ومعرفة تامة في الرواية، وإمامة كبيرة في الإتقان والدراية، ومراتب عليَّة في الزهد والولاية…
تفقَّه على والده الإمام مصطفى، وغيره من علماء الجزائر، ورحل إلى مستغانم، فأخذ عن علمائها علومًا جمَّة،وأجازوه فيها على ما اصطلح عليه الأئمة، أنه مالكي المذهب، أشعري الاعتقاد، وكان مسموع الكلمة، مهابًا، مطاعًا، وضع الله له في قلوب الخلق من الهيبة ما لم يوضع لغيره من الأئمة، من أهل قطره في عصره…
حتى إنه كان إذا نظر إلى شخص فإنه لا يقدر على النظر إليه، ولو كان من خاصته وذويه، ومما قيل فيهو :
- ترى عُظَماء النَّاس مِن خَوفِ لحظهِ «كَأَنَّهُمُ الكِرْوَانُ أبْصَرْنَ بَازِيًا»
إنها هيبة التقوى، لا هيبة الساعد الأقوى، هذا مع ما جَبل الله النفوس عليه من محبَّته، والقلوب على مودَّته، فما رمقَه طرف إلا وأحبَّ أن يفدِّيه بسواده، ولا نال أحد دعوته إلا رأى بركتها في نفسه وماله وأولاده…
قصد بيت الله الحرام مرارًا، وزار قبر النَّبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام، وكان مجاب الدعوة، عظيم الخطوة، ولما رفع الله قدره، وأشاد ذِكره، حسده بعض المعاصرين، جريًا على عادة الأراذل مع الأفاضل، واللئام مع الكرام، فوشى به إلى حسن باي، حاكم بايلك وهران، وقال له : إن هذا الرجل كما ترى قد علت بين الناس رتبته، وبَعُدَ في المغرب والمشرق صيتُه، مسموع الكلمة عند جميع الناس، وله انتقادات صريحة في بعض سلوكيات الولاة، وإني أخشى أن يكون على يده خراب حكومتك، فأوقع كلامه هذا، في قلب حسن باي، ما هو من عادة الحُكام، فبعث إليه، يأمره بالإقامة الجبرية في وهران، بأهله وخاصته…
ولما كان دأبُه متابعة الجماعة، والسعي فيما فيه صلاح الأمَّة، والالتزام بالحديث الشريف : "اسمَعْ وأطِعْ، ولَو تأمَّرَ عليكَ عبدٌ حبشيٌّ رأسُه كأنَّه زَبيبةٌ"، امتثل الأمر، لئلا يكون سببًا في شقِّ عصا المسلمين، وليكون مغلاقاً للشر والفتن، فلما انتقل عظم ذلك على النَّاس، واشتدَّ الكرب واليأس، وامتلأت طرقاته بخيله ورجله، ولما رأوا أن تدارك ذلك الأمر قد فات وقته، وخافوا من الوقوع فيما هو أعظم، رجعوا إلى التأسُّف والتحسُّر، وأقبلوا على الدعاء، ورفعوا إلى الله أكف الضراعة والالتجاء، وواساه العلماء بأنواع التسلي، نظمًا ونثرًا، وأوفدوا عليه قصائدهم ورسائلهم تترى…
وممن انتدب لذلك، وأحسن في سلوكه لتلك المسالك، العالم الماهر، والأديب الشاعر، الإمام العلّامة السنوسي القرشي بن عبد القادر الحسني الراشدي، فقال فيه أبياتًا عظامًا في سجنه، ولا سيما بعد أن استفحل طغيان الولاة الأتراك، إثر استقلالهم بأنفسهم عن السلطنة العثمانية، في آخر خمسين عامًا على زوالهم من الجزائر، ولم يبقَ بينهم وبين الدولة العثمانية إلا اتصالٌ صوري، بالخطبة وضرب السكة باسمهم، على حين كانوا يُولُّون المناصب بأنفسهم، ويقتلون ويعتقلون الرعية بالشبهة، خالعين عصا الطاعة للخليفة العثماني بكل صورها…
وسنتعرَّض لاحقًا لإثباث ذلك بالدليل والوثائق، وسوف نسلط فيها الضوء على علاقة الولاة الكراغلة بمركز السلطنة، أواخر الخمسينا عامًا من حكمهم…
قصيدة السنوسي ضُمِّنت قولاً يستحق أن يكتب بماء الذهب، ووردت أبياتها أيضًا في مصدر طلوع سعد السعود للمزاري المخزني، ولكن بعد مطابقتها مع الأصل في مخطوطة تحفة الزائر تبيَّن أن بعض الأبيات التي ذكرها المزاري على خلاف مع الأصل في بعض الألفاظ، ولكنها في المعنى ذاته :
"عَوِّلْ على الصَّبرِ لا تُفزِعْكَ أشجانُ
ولا تَرُعْكَ بما فاجَتْكَ وَهرانُ
بَلَى هي الدَّار لا تأمَنْ غَوائِلَها
بَلى هي الدَّار أغيارٌ وأحزانُ
شبَّت على الغدرِ لم تَعطفْ على أحدٍ
ألا ومِن غَدرِها صَدٌّ وهُجرانُ
تُخفي الدَّسائِسَ لم تُعرَفْ لها حِيَلٌ
وليس تَعقدُها والله إيمانُ
ما أنت أوّلَ مَن دَهتْ ولا أخِرًا
ولا بأوسطَ من خانته أزمان
انظر إلى يوسف الصدِّيق كم لبثت في السجن نفسُه لم تزره خلَّانُ
وانظر إلى ابن رسول الله ثمَّ إلى هلَّم جرًّا وما لاقاه عثمانُ
تلك العوائد أجراها على قدرٍ
مُدبِّرُ الأمر كيفَ شاءَ ديَّانُ
لم يثقفوك أمُحيي الدين عن زللٍ رأوا، ولكنَّ أغوى القومِ شيطانُ
فعن قريبٍ أكيدُ الصَّبرِ يَخذلُ مِن أجله قد عدا عليك سلطانُ
ويكظم الغيظ مِن خصمٍ ومِن حكمٍ ويكشف الغيبُ أن صدقتَ، أن خانوا
بَلْ لا عليك وإن ساءت ظنونهم
سيُهزمُ الجمعُ أو يشتُّ ديوانُ
إنَّ العواقب في القرآن ثابتةٌ
للمتَّقين وصدقُ القول قرآن
وأنت والله لم تزل على سننٍ
يهدي إلى الحقِّ لم يُمِلْكَ طغيانُ
تَقري الضُّيوفَ وتسعى في حوائجهم وتحمل الكَلَّ لا غشٌ ولا رانُ
مَن يَستجرْ بك يُمنَعْ وإن جمعوا
تحمى الذِّمار وعمَّ منك إحسانُ
جفيت ليلَك لم تألفْ مضاجعَه
ويومُك الدهرَ جوعانٌ وعطشانُ
تبيت بين الدجى تتلو المفصَّل عن قلبٍ وتصبح مثل البدر تزدانُ
تُدرِّس العلمَ مرَّةً، وثانيةً
تُلقِّن الذِّكر والأزمان أزمانُ
واللهَ أسأل أن أراكَ منطلقًا
وما حواليكَ حرَّاسٌ وأعوانُ
ومنه أرغب أن ألقاكَ معتدلًا كالحال قبلُ وقد أمَّتك ركبانُ
ثمَّ الصَّلاة على محمدٍ وعلى
أهلِ الهدى آله ما تمَّ إيمانُ…"
وعلى سبيل المثال جاء البيت الأخير، في طلوع سعد السعود، ج 1- ص 362، مختلفًا عما في تحفة الزائر، على النحو :
ثم الصلاة بمحمود الصلاة على
محمد المصطفى ما تمّ إيمان
ثم إن أهل الديوان، من دائرة الباي، وخاصَّته من الأتراك، اطلعوا على : فضل الإمام محيي الدين وولايته، ورأوا أحواله الصالحة، وشاهدوا أنوار الولاية عليه لائحة، إذ كلُّ إناء يرشح بما فيه، وما انطوى عليه ضميره يُتَرجَم عليه، وعلموا أن ما رُمِي به إفك وبهتان، ومحض زور وعدوان، فأقبلوا عليه جادِّين في حمايته ونصرته، طالبين دعاءه، ملتمسين من بركته، ملأ الله قلوبهم بمودَّته، وصدورهم بمحبته…
وإذا أحبَّ الله يومًا عبدَه
ألقى عليه محبَّة للناس
ومن المعلوم أن من أسرَّ سريرة، ألبسه الله رداءها، ومن راض نفسه، فقد داواها، وأزال داءها…
فعَرفوا ما لسيّدهم من صفاء طوية، ووافقوا على براءة ساحته، وأنه ليس من أهل الدُّنيا الدنيَّة، بل هو في شغل عنها، قولًا وفعلًا ونيَّة، فأُطلق سراحه، ووُسِّع براحه…
وكان قبل الواقعة عزم على حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيِّه عليه الصَّلاة والسَّلام، فمنعه ما ذكرناه، فلما منَّ الله عليه بالتسريح جدَّد نيَّته، ووجَّه إلى الحجاز وجهتَه، وأخذ في السفر، فاختار لأنسه ورفقته ولده المغوار عبد القادر، من بين سائر أولاده وقرابته، وذلك لما شاهده من قوَّته ونجدته، فسبحان من قدَّر الأحوال، طورًا فطورًا، ودَرَج النباتُ ورقًا ونَورًا…
وبعد عزمه على السفر خلَّف على أمور الزاوية والبيت ولدَه الأكبر، الإمام السيد محمد سعيد، ثم سار بعزم لا يُفَلُّ حدَّه، وجعل طريقه برًا إلى تونس، ومنها ركب البحر إلى مصر، ثم إلى بحر السويس فركبه إلى جدة، ومنها إلى مكَّة المكرَّمة، فحجَّ واعتمر، وفاز بالحظ الأوفر، ثم يمَّم المدينة المنورة، فزار القبر الشريف، وصلى بالمسجد النبويّ المنيف، ثم خرج منها إلى الشام، فدخل دمشق، وأقام بها شهورًا، وسمع فيها هو وولده سيّدي عبد القادر على الإمام الشيخ عبد الرحمن الكزبري بعضًا من صحيح البخاري، بمسجد بني أمية، ثم سار إلى بغداد، فزار ضريح الشيخ الرباني، والهيكل الصمداني، السيّد عبد القادر الجيلاني، ولقي في هذه الرحلة من العلماء، من حاز قصب السبق في كلِّ مجال، ومن الأولياء من له خبرة بالوقت والعلم والحال، فأخذ عنهم، وأخذوا عنه علومًا جمَّة، واستمدَّ منهم، واستمدُّوا منه، أسرارًا وحكمة، ولبس الخرقة القادرية، من يد الأستاذ نقيب السادة الحسنيين وقتئذ، وخليفة الشيخ قدَّس الله سرَّه، وصاحب سجادته، سليلة السيّد محمود، وأجازه مشافهة وكتابة…
ثم كرَّ راجعًا على طريقه إلى المدينة المنورة، ثم إلى مكَّة المطهَّرة، فحجَّ بما في تلك البقاع الشريفة من الرسوم والآثار، وكان قبل ذلك بسنين أدَّى حِجَّة الفرض، فتلك ثلاث حجَّات كاملة، نال بها ما كان قاصده وآمله، وقد صحبه ابنه البار عبد القادر، في جميع هذا السفر الطويل، وقطع مهَامِهَ ليس لغيرهم في سلوكها من سبيل، إلا النادر القليل، وبلغ من برِّه وخدمته فوق مراده…
ولما قضَوا مآربهم، وأوقروا من نفائس الطاعة حقائبهم، رجعوا إلى وطنهم، وجعلوا طريقهم على برقات، برسم زيارة دفينِها، العلَّامة الصالح، سيّدي الإمام العلّامة مصطفى، ثم استمروا سائرين في طريقهم برًّا إلى تونس، ومنها إلى الجزائر، ولقيهم حاكمها الأكبر، بما يقتضيه جليل المقام، من الإعظام والإكرام، والتوقير والاحترام، ثم خرجوا منها إلى الوطن، فكان قدومهم على أهل غريس، وتلك الجهات، عيدًا، ويوم وصولهم يومًا مشهودًا، ثم أخذت الوفود تترى عليهم، من كل ناحية، ولم يتخلَّف عن التبرُّك بهم أحد، من أهل الحاضرة والبادية، وذلك أن النَّاس كانوا يشتاقون إليهم، اشتياق الظمآن للماء الزلال، ويترقَّبون طلوعَهم عليهم ترقُّب الهلال…
وبالجملة ؛ فقد بلغ من الشهرة مبلغًا لا يُدرَك، وبالحظوة مقامًا لا يُشرَك، وحسبك أن الإفرنج اعتنَوا بأخباره وأحواله، فقيَّدوها، وفي تواريخهم المعتبرة أثبتوها، ومنهم المؤرخ بالمار، الذي ذكر في تاريخه ما نصُّ ترجمته : إن السيّد محيي الدين، والد الأمير عبد القادر، ذو فضل وعلم ووقار، وكان يُوزِّع القسم الأكبر من دخله على الفقراء، ولم يكتف بما منحهم إياه من قوة الأجسام، حتى اهتم آخرًا بإعطائهم قوت القلوب والأرواح، ودعاهم لمائدة علومه المختلفة الألوان، في صحن المدرسة التي أسَّسها والده السيّد مصطفى على تقوى، وبناها بعزائم إخلاصه، بالقرب من مسكنه في قرية القيطنة، الكائن بوادي الحمام، التي اختطها سنة 1206هـ، وخصَّص للقيام بنفقة تلامذتها جانبًا من دخله الخاص، ورتَّب بها خزائن الكتب، وملأها من ذخائر نفائس مكنونات صدره الشريف، ومن عجائب النقول وغرائب المنقول، إلى آخر ما ذكره…
وقد أخبر الأمير عبد القادر نجله الفريق محمد باشا أن الجد زاد في نفقات المدرسة المذكورة، عما كانت في أيام والده السيّد مصطفى، بما لا يتقارب، وكان مع كثرة ما تنتجه أملاكه الوافرة، التي تعادل أملاك أمير عظيم، كثيرًا ما يستدين، لتتميم نفقات السَّنة، وذلك لوافر صدقاته ونفقاته، على الزاوية والمدرسة، وسائر من يؤمُّه من الجهات.
وذكر المؤرخ الفرنساوي الشهير
روا في تاريخه ما نصُّ ترجمته : إن القيطنة كانت سنة 1246 هـ مؤلفة من 500 بيت، تحتوي على 500 عائلة من خدمه، ومنهم طلبة علم، ومنهم فقراء عاجزون عن الكسب، وجميعهم يأكلون ويكتسون من نفقات صاحب القيطنة…
وهذا الذي ذكره المؤرخ المذكور كان على عهد الجّد، مؤسس القيطنة، وهو الإمام السيّد مصطفى، وأما بعد ذلك في عهد الامام محيي الدين فإنها زادت أضعاف ما كانت، عددًا ونفقة…
وقد تعرض المؤرخ شرشل الإنكليزي في تاريخه، في أخبار الإمام محيي الدين، لقصته مع حاكم وهران حسن باي، وقد أجاد في تفصيلها، فقال : إن السيّد محيي الدين اعتمد على التوجُّه إلى الحجّ، فأعدَّ لذلك تجهيزات عظيمة، وفي تشرين الأوَّل سنة 1823، خرج هو وولده عبد القادر من القيطنة، وكان سفره شاع حالًا في ولاية وهران، وجلُّ الأعيان اعتمدوا على التوجُّه معه، وفي أوَّل مرحلة رأى حول خيامه مئات من العرب، ثم ازداد عددهم إلى الألوف، وكلّهم يطلبون أن يأذن لهم في الانضمام إليه، ولم يصدَّهم توبيخُه اللطيف لهم، وإنكاره عليهم، وحيث إنه سيّدهم ورئيسهم، افتكروا أن من وصل لذلك المكان الشريف، تحت أنظاره، يحظى بأجر وافر…
وفي اليوم السادس من خروجه من بلده وصل إلى وادي شلف، وخيَّم في جانبه، وفي عشية ذلك اليوم ورد عليه مكتوب الباي، يلتمس منه الرجوع إليه بوهران، حاضرة الولاية
وبعد صلاة الصبح استعدَّ للرجوع، امتثالًا لأمر الحاكم، فتكدَّر العرب لذلك كدرًا عظيمًا، عندما أخبرهم بهذا الأمر، الذي كان غير منتظر، فشعروا بخيبة آمالهم، وشدَّة خوفهم على سيّدهم المحبوب، فازدحموا عليه، وتعلَّقوا به، متضرِّعين إليه بألا يصغي لتلك الرسالة، فأجابهم بهدوء، وأظهر لهم الطاعة والاستقامة، اللتين لم يفارقاه، وقال لهم : يا أولادي إن من واجباتي أن أخضع وأطيع، ولو كلَّفني ذلك إلى فَقْدَ حياتي، وحيث إنه لم يُصغِ لطلبهم، ودَّعوه، وتوجَّه هو وولده عبد القادر، وبعض أتباعه إلى وهران…
فلما وصل إليها استقبله الباي بكمال الترحاب، وأعرب عن كرمه وحبِّه، وخاطبه بقوله : أنت تعلم يا خليلي ما لك عندي من سموّ الاعتبار والحبّ، وقد غمَّتني الأخبار الخادعة التي شاعت عنك، وحيث إن أعداءك كثيرون، خشيت عليك أن تقع في يد الباشا حاكم الجزائر، الذي ستمرُّ ببلاده في حال تهييج أفكاره وأوهامه، ولذلك بعثت إليك لأنقذك من خطر يتهدَّدك، وقلبي يمتلئ من الكدر والانزعاج لأجلك…
فأجابه الإمام مُحيي الدين : إني امتثلت لأمرك، لأجل أن أريح أفكارك، وأجعلك سالمًا من الانزعاج، وأسكن كما أمرتَ في داخل وهران، وفي الواقع أن حسن باي كان ممتلئ بالغيرة والحسد، من الإمام محيي الدين، وأقلقه التجمُّع الغريب، غير المعتاد حوله، متأكدًا عنده أن المحبَّة العظيمة، التي أظهرتها الأمَّة لسيّدها، ربما تسوقه يومًا ما إلى حالة المراقبة والمناظرة، وخشيَ مما قد يَبدرُ عن ذلك من خطر وقلق، فرأى أن الحلَّ في وضع السيد محيي الدين تحت قدرته، وفي متناول سلطته، متلبِّسًا بالصداقة له…
وبعد أن خرج من عنده إلى المحلِّ الذي أُعدَّ له، أُحيط بحرس من الجنود الأتراك، وحيثما توجه رافقوه ودخلوا معه، فكان في حالة أسر، إلا أن ذلك الحرس أخذوا عنه الطريق، وصاروا من جملة خدمه…
وهذه الحالة المتعبة استمرت سنتين، بشدَّة غير متناقصة، والإمام مُحيي الدين كان غير مكترث بها، بل كان مشتغلًا بالدروس للطلبة، غاضًّا طرفه عن هذا الظلم والاستكبار السلطوي، وقرن أحكام القضاء بواجبات الرضا، محافظًا على بقاء الألفة، وجمع وحدة الكلمة…
وكان الإمام محيي الدين لما تلمذ له الحرس يقول : هم -يعني الحُكام- جعلوهم لنا نقمة، والله تعالى جعلهم لنا رحمة…
وبعد أن يسَّر الله خروجه من قبضتهم، وسافر إلى الحجاز، ورجع إلى القيطنة، أقام في منزله معتزلًا جميع الأعمال، داعيًا بصلاح العمال، مشتغلًا بعبادة الله، مدرسًا لفنون العلم. وبالجملة ؛ فإنه كان ممن جمع الله لهم بين علوم الشريعة والحقيقة، وجعله معدنًا للسلوك، وأخذ الطريقة، وألَّف في التصوف كتابًا جليلًا، نقل فيه نقلًا جزيلًا جميلًا، سماه : «إرشاد المريدين»، إذا أمعن النظر فيه من رآه وجده اسمًا قد طابق مُسمّاه…
عاش الإمام محيي الدين 59 سنة تقريبًا، وخلَّف من الأولاد الذكور ستة، أكبرهم الإمام محمد سعيد، ويليه في السنّ الأمير عبد القادر، ومصطفى والحسين والشهيد أبو بكر وأحمد، وكلهم انتهى مصيرهم بين شهيد وسجين ومنفي، وقد تعمد الاحتلال الفرنسي في اتفاقياته نفي أبناء الإمام محيي الدين حصراً عن البلاد، دون سواهم، إلى جانب الأمير عبد القادر، ولم يعد أحد من ذراري إخوة الأمير إلى الجزائر حتى هذا التاريخ، بسبب إخفاء أو إتلاف إدارة الفرنسيين سجلاتهم المدنية…

سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)