مستغانم - Patrimoine Culturel

انتعاش النشاط العلمي والصوفي بتلمسان خلال العهد الزياني


انتعاش النشاط العلمي والصوفي بتلمسان خلال العهد الزياني
- إنتعاش النشاط العلمي والصوفي بتلمسان خلال العهد الزياني
مساهمة بقلم الأستاذ/ الحسين يختـــــار
مهتم بالتراث الإسلامي ــــ مستغانم
مقال منشور بجريدة صوت الغرب بتاريخ 07 مارس 2013
يعتبر العصر الزياني بتلمسان أزهى العصور الثقافية على الإطلاق بالجزائر عموما ومجتمع المدينة الزيانية على وجه الخصوص لما اختص به هدا العصر من نشاط علمي وفكري منقطع النظير .
فعلى الرغم من أن هذا العصر قد ميزته الإضطرابات السياسية فإنه " من أوفر إنتاج الجزائر الثقافي ومن أخصب عهودها بأسماء المثقفين أو العلماء والمؤلفات فيما يرى الدكتور"أبو القاسم سعد الله ـ
ولم تؤثر الظروف السياسية المضطربة التي عرفتها مدينة تلمسان في بعض الفترات من تاريخها نتيجة الحملات المرينية والحفصية على عاصمة الدولة الزيانية على الحياة الثقافية السائدة في المدينة حتى في أحلك ظروفها السياسية و"الفضل في ذلك يعود إلى جملة من العوامل المستمدة من البيئة التلمسانية نفسها وإلى واقعها المادي والبشري وتركيبتها الإجتماعية والفكرية"
ويأتي في مقدمة هذه العوامل تشجيع السلاطين الزيانين للعلم ومحبتهم للعلماء وإكرامهم لهم ، فقد حفل مؤلف الحافظ أبو الحسن التنسي بالمدارس والزوايا والأحباس التي أنشأها بنو زيان من أجل طلبة العلم المرابطين بجوار مساجد تلمسان .
ومن أشهر سلاطين بني زيان الذين اشتهروا بهذا يوسف بن تاشفين الذي شيد المدرسة التاشفينية بجوار الجامع الأعظم إلى الجهة الجنوبية منه عام718 هـ واستقدم لها أبو عمران المشدالي ثم أبو عبد الله البجائي ضمن مجموعة العلماء الأسانذة الذين درسوا وأشرفوا على إدارة شؤون المدرسة "وقد استمرت التاشفينية التي تعتبرمن أجمل المدارس الزيانية تؤدي رسالتها العلمية والتربوية حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي ،وقبله أبو حمو موسى الأول وكان أكثرهم تواضعا للعلم خادما له محبا لأهله الذي قام بتأسيس مدرسة ابني الإمام بدرب كشوط عام 710 هـ والتي" واصلت نشاطها- التعليمي- إلى غاية منتصف القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر ثم أبو حمو موسى الثاني الذي قال عنه التنسي في تاريخ تلمسان "وأما اعتناؤه بالعلم فأمر يقصر اللسان عن الإجابة به"
ويواصل عبد الجليل التنسي وصف محبة السلطان الزياني لأبي عبد الله الشريف التلمساني إلى درجة صار :" يوجهه في الرسائل المهمة ويلتمس بركة بيته الشريف في كشف الخطوب المدلهمة "
ولما بنى له المدرسة اليعقوبية بجوار جامع إبراهيم المصمودي سنة 765 هـ بتلمسان " احتفل بها وأكثر عليها الأوقاف ورتب فيها الجرايات"، ووذكر أنه قد "حضر مجلس إقرائه جالسا على الحصير تواضعا للعلم وإكراما له ، فلما انقضى المجلس أشهد بتلك الأوقاف وكسا طلبتها كلهم وأطعم الناس وطول الله مدته حتى ختم السيد أبو عبد الله المذكور تفسير القرآن العزيز فيها فاحتفل أيضا لحضور ذلك الختم وأطعم فيه الناس وكان موسما عظيما"
ويذكر أصحاب السير أنه لما بويع لأبي زيان محمد بن أبي حمو "نسخ بيده الكريمة نسخا من القرآن" ونسخة من" صحيح البخاري ونسخا من الشفا" وبعد أن أتم نسخ ماتقدم"حبسها كلها بخزانته التي بمقدم الجامع الأعظم من تلمسان المحروسةً "
فهذه الأخبار التي ساقها عبد الجليل التنسي "عن الأمراء الزيانيين وحفاوتهم لأهل العلم وتبجيلهم له لأصدق دليل"على عناية الملوك الزيانيين بالعلم والعلماء
وزاد من انتعاش الحركة الثقافية والفكرية بتلمسان في هذا العصر انتقال كثير من الفنون الأندلسية إلى بلاد المغرب عن طريق نزوح مسلمي الأندلس الذين اضطرتهم ظروف الحصار الشديد إلى الهجرة نحو المغرب الإسلامي فحملوا معهم من العلوم والمهارات التي اكتسبوها هناك
فعلى غرار الأدب والشعر والموشحات التي تسربت من الأندلس إلى المغرب كان لفقهاء الأندلس نصيب وافرمن الفتاوى والإجتهادات الفقهية حفظ لنا منها كتاب المعيار لأبي العباس الونشريسي " مجموعة هامة من فتاوى فقهاء الأندلس لهذه الفترة أمثال ابن فتوح الغرناطي المتوفى سنة867 هـ وابن السراج الغرناطي المتوفى سنة 848 وأبي عبد الله محمد الحفار الأنصاري الغرناطي المتوفى سنة811هـــ " وأبو عبد الله محمد بن الحداد الوادي أشي الذي استوطن تلمسان و"عاش بها يحترف النسخ وصاهر بني مرزوق" وكان لأبي عبد الله محمد بن الأزرق مؤلفاته التي قال عنها المقري" تآليف عظيمة وقفت عليها بتلمسان"
وممن دخل تلمسان في هذه الفترة أبو الحسن القلصادي صاحب الرحلة الشهيرة قادما إليها من غرناطة "وكان يعقد حلقات التدريس ويتولى الإقراء فيحضر جم غفير من الطلبة للقراءة عليه والإستفادة منه وكان يدرس بعض الكتب التي صنفها بنفسه "ودامت مدة إقامته بها ثماني8 سنوات وسبعة أشهر
و أدى تزاحم النشاط العلمي والفكري الممتد من المساجد والمدارس والزوايا بتلمسان خلال القرن الهجري التاسع إلى بروز تيارات ثقافية وفكرية واضحة المعالم كان لها أثرها الظاهر أشهرها :تيار الإجتهاد الفقهي وتيار التصوف السني الدي أسس له أبو مدين شعيب الإشبيلي حسب ماذهب إليه الأستاذ القدير عبد العزيز فيلالي.
وكان لابن مرزوق الخطيب الدور البارز في إحياء طريقة سيدي أبي مدين الإشبيلي فقد جاور ضريحه بالعباد واتخذ من مدرسة ومسجد العباد مركزا علميا لنشر التصوف وتلقين الطلبة والمريدين ثم الشيخ عبد الرحمان ابن زاغو المتوفى845 الذي وصفه ابن مريم في البستان بأنه له:"قدم راسخة في التصوف مع الذوق السليم والفهم المستقيم وبه يضرب المثل في الزهد والعبادة"
وذلك أن مدينة تلمسان قد تأثرت كغيرها من مدن المغرب بتيار التصوف وانتظمت حلقات الذكر في المساجد والزوايا والمدارس يقول المقري " وتخرج من تلمسان من العلماء والصلحاء ما لا ينضبط....."
ويذكر الأستاذ عبد العزيز فيلالي "كان شيوخ التصوف وأقطابه يشرحون لمريديهم وتلاميذهم ،كتب الغزالي والقشيري والشفا وغيرها من كتب مشاهير التصوف في المشرق والمغرب ،وكثيرا ماكان هؤلاء يقومون بتدريس كتبهم لطلابهم هم بدورهم وينقلونها إلى تلاميذهم"
ويرى الدكتور محمود بوعياد أن " الصوفية قد أخذت بفضل هؤلاء المتصوفين وبفضل تلامذتهم وأتباعهم اتجاها واحدا من الأندلس إلى إفريقيا وهو أن تغلغلت تعاليمهم كلها بين الأوساط الشعبية وكان هذا من أظهر مميزاتها وقد أدى هذا الإتجاه إلى تغلب الفكر الصوفي على الحياة الفكرية وعلى أكثر مظاهر الحياة بالبلاد "
وعم الفكر الصوفي مختلف أوساط المجتمع التلمساني وصار الإعتقاد بالمرابط تعتنقه الخاصة والعامة يتصدرهم أمراء بني زيان وسلاطينهم الذين"يعتقدون فيهم ، ويتبركون بهم ويلجؤون إليهم في كثير من الأمور ، للإحتماء ببركاتهم ودعواتهم
ويواصل الأستاذ عبد العزيز فيلالي أن "المصادر الزيانية تطلعنا على حشد هائل لأسماء الزهاد والمتصوفة الذين أنجبتهم مدينة تلمسان خلال العهد الزياني ولا سيما "بغية الرواد لابن خلدون والمجموع لابن مرزوق والبستان لابن مريم "
ومن الطبيعي جدا أن ثمة أسباب وراء سرعة انتشار التصوف بمدينة تلمسان الزيانية يأتي في مقامها الأول سيدي أبي مدين ودفنه بها يقول المقري: "ويكفيها افتخارا دفن ولي الله يسيدي أبي مدين شعيب بن الحسين الأندلسي شيخ المشايخ وسيد العارفين وقدوة السالكين "
وظل ضريحه مقصدا للزهاد والعلماء والعباد فلما مر بتلمسان محمد العبدري البلنسي هاله مارأى بها وسجل في رحلته الشهيرة "ومن أعظمها وأشهرها قبرا لصالح القدوة فرد زمانه أبي مدين رحمه الله ورضي عنه ورزقنا بركته"
كما كان لتشجيع سلاطين بني زيان على العلم والتصوف – الذي رأينا - تأثير بالغ في الحياة الفكرية والثقافية، وزاد من أمر ذلك أن صار منهم من يتقرب للصالحين والزهاد طمعا في بركتهم تارة واستمالة لقلوب العامة تارة أخرى سيما عند اشتداد حالات الحصار من قبل أمراء الدولتين الجارتين المرينين من الغرب والحفصيين من الشرق.
ويضاف إلى هذا كله وقوع تلمسان في منطقة هامة تمثل نقطة العبور بين المشرق والمغرب ومحطة الوافدين من الأندلس
وإلى جانب ماتقدم ، مجاورة مدينة تلمسان لمدينة فاس التي تأثر أغلب سكانها بطريقة الولي الصالح أبوصالح بن حرزهم المعروف بسيدي حرازم
و بما خصها الله به دون غيرها من مدن المغرب الإسلامي، استهوت تلمسان قلوب العارفين وظلت موطن الشعراء والمحبين فكانت كما وصفها صاحب نفح الطيب "لها شأن عظيم وهي مدينة عريقة في التمدن لذيذة الهواء عذبة الماء كريمة المنبت"وفي وصف كرم أهلها وطيبة ساكنيها يقول عنها يحي بن خلدون الكاتب ــ شقيق ابن خلدون المؤرخ ـ:"ناس أخيار أولوا حيــــاء ووقــــــار ووفــــــــاء بالعهــــد وعفــــــــــاف وديـــن واقتصــــاد"
ولما زارها القلصادي الأندلسي وصفها حال نزوله بها سنة 840هــ قائلا: "المقصودة بالذات المخصوصة بأكمل الصفات : تلمسان يالها من شأن ذات المحاسن الفائقة والأنهار الرائقة والأشجار الباسقة والأثمار المحدقة والناس الفضلاء الأكياس المخصوصين بكرم الطباع والأنفاس" وقال عن الحياة العلمية بها "خلق كثير من الصلحاء والعباد والزهاد وسوق العلم حينئذ نافقة وتجارة المتعلمين والمعلمين بها رابحة والهمم إلى تحصيله مشرفة "
و بالغ ابن خفاجة الشاعر الأندلسي المعروف مبالغة غير مقبولة عندما تجاوز حدود الشرع وفاضل بينها وبين جنة الله فيما نقل عنه صاحب كتاب "بغية الرواد":
ماجنة الخلد إلا التي في منازلكم وهذه لو كنت خيرت أختار
لاتتقوا بعدها أن تدخلوا صقرا فليس تدخل بعد الجنة نار
وظلت الهجرة إلى تلمسان حاضرة العلم يومها، علامة للمخلصين من طلاب العلم ومريديه ،وشارة على كل من رام أن يكون في عداد الراسخين ،وزاد من الشوق إليها مانسج حولها من أخبار، كالإعتقاد الذي ظل إلى وقت قريب من أن تلمسان "قد حل بها سيدنا موسى ومكث بها شهرا رفقة الخضر عليهما السلام في قصة بناء الجدار.
كل هذه المغريات كانت كفيلة بأن تجعل من تلمسان مهوى العلماء والمريدين وملهم الشعراء والمجيدين ومقصدا للطلبة المحبين ولاشك من أنها بهدا تكون تلمسان قد دخلت تاريخ الحضارات من بابه الواسع واستحقت أن توصف بكل جدارة واستحقاق "جوهرة المغرب".
ومما هو حري بالقول في هدا المقام ،أنه مهما قيل في هدا العرض السريع فإنه لايوفي بعصور تلمسان الذهبية حقها ، وأن رواد البحوث المعاصرة التي حلقت في سماء تلمسان التراثي والثقافي أمثال محمود بوعياد ، وعبد العزيز فيلالي ،وبوداود عبيد ، وعبد الرحمان الجيلالي ،ويحي بوعزيز ،وأبو القاسم سعد الله وعبد الحميد حاجيات وجميع كتابات الدين ساهموا في هد المضمار تستحق كل الشكر وكل التقدير وجميل العرفان







سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)