مستغانم - 02- Origines



البدو والحضر والعرب
البدو والحضر والعرب

البدو والحضر
البدو أهل البادية والحضر أهل المدن، والبداوة أقدم من الحضارة لأنها أقرب منها إلى الفطرة الطبيعية. فالإنسان كان في أول أدواره بدوياً يحترف الزراعة والفلاحة أو تربية الحيوانات من الغنم والبقر والمعز أو النحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها. فالبداوة تقوم إما على الفلاحة والزرع أو على تربية الحيوان.

فالبدو أهل الفلاحة مضطرون للاستقرار في مواطنهم ينتظرون الغلة وهم سكان القرى والجبال وكانوا قليلين في بادية العرب. وأما أهل الإبل فأشهرهم بدو العرب وهم أكثر ظعناً وأبعدُ في القفر مجالاً من أهل السائمة لأن مسارح التلون ونباتها وشجرها لا تستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر وورود مياهه المالحة، فاضطروا إلى إبعاد النجعة والإيغال في القفار.

فسكان جزيرة العرب معظمهم من البدو الرحل ولذلك كانت المدن قليلة في تلك الجزيرة ولاسيما في أواسطها وأشهر المدن العربية قبل الإسلام مكة والمدينة والطائف في الحجاز ومأرب وصنعاء في اليمن، وسكانها أخلاط من العرب والفرس واليهود وغيرهم يرتزقون بالبيع والشراء على من يفد عليهم من أهل البادية.

وأهل البلد الواحد أو المصلحة الواحدة لابد لهم من مجتمع يجمع بين أفرادهم. والمجتمع يختلف في الأمم باختلاف أحوالهم فبعض الأمم يجمعهم الوطن وآخرون يجمعهم الدين وغيرهم يجمعهم النسب أو اللغة. وقد رأيت أن البدو لا وطن لهم وكانوا قبل الإسلام لا دين لهم فلم يكن لهم ما يجمعهم غير النسب واللغة وهما متلازمان خصوصاً في البداوة.

فعني العرب في حفظ أنسابهم وضبطها وتفاخروا بها وبالغوا في استقصائها حتى ردوها إلى الآباء الأولين، وبين القبائل أو أفخاذها أو بطونها أو عمائرها عصبية النسب تجمعها بعضها إلى بعض. وكل من القبائل أو البطون أو الأفخاذ يفاخر سواه بحسنات قومه ويذكر مثالب الآخرين، على أن العرب يجتمعون إلى غير العرب من الفرس أو الترك ويسمونهم (العجم) ويفاخرونهم بالأنساب واللغة ويحتقرونهم وقد شقوا من اسمهم لفظ (الأعجم) للدلالة على الخرس أو أن العجم مشتق من العُجمة فالعجمي عندهم غير العربي والأعجم الأخرس، والأصل في العصبية عند العرب الأبوّة أو الانتساب إلى الأب مثل سائر الأمم الراقية على أن الأمومة كان لها شأن كبير عندهم وكثيراً ما كانت المزاوجة أو المصاهرة سبباً كبيراً للعصبية.

وكان للخؤولة شأن عظيم عند العرب قبل الإسلام وأقرب الشواهد عليها نصرة أهل المدينة للنبي (صلّى الله عليه وآله) في هجرته إليهم فإن الخؤولة كانت من أهم أسباب نصرتهم لأن أم النبي (صلّى الله عليه وآله) من بني النجار من الخزرج وهي قبيلة قحطانية وأبوه من قريش وهي قبيلة مضرية، فلما توفي والده ذهبت به أمه إلى المدينة لكي تلتجئ إلى أخواله بني النجار وهم كثيرون وكانوا من أقرب أهلها إلى التدين ـ وقد ترهّب أحدهم في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة وهَمّ بالنصرانية ثم أمسك عنها واتخذ بيته مسجداً، فأقامت عندهم على الرحب والسعة ثم ذهبت به إلى أعمامه في مكة وماتت في الطريق، فلما قام بدعوته وقاسى ما قاساه من اضطهاد أعمامه هاجر إلى أخواله في المدينة، وأهلها يعرفون ذلك فيه لأن خؤولة بني النجار جعلت الخزرج كلهم أخواله فلما نزل المدينة رحب به أهلها وكان أول من تبعه منهم أخواله أو من يمت إليهم بقرابة.

وكانوا أشد أهل المدينة غيرة عليه ودفاعاً عنه ثم تهافت أهل المدينة إلى مبايعته، وكان رجال السياسة والتدبير من الملوك والقواد يقوّون أحزابهم بالتزوج من القبائل المختلفة فيكتسبون عصبية قبائل نسائهم.

قال ابن خلدون عن البدو والحضر والعرب

قال ابن خلدون إن الناس يجتمعون
بالضرورة، للتعاون على المعاش، و يبدأو بما هو ضرورى منه وبسيط قبل الزيادة
و الكماليات ، فمنهم من يمتهن الزراعة، ومنهم من ينتحل القيام على الحيوان
من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها، و في كلا
الحالين تكون الحاجة إلى المساحات الكبيرة سواء للمزارع أو مراعي
الحيوانات، فكان وجودهم دائما في البادية و خارج المدن و الحواضر، و تميز
عيشهم كفالحين أو رعاة بالاكتفاء بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحصل بلغة
العيش من غير مزيد عليه، للعجز عما وراء ذلك في أحوال كثيرة، حتى إذا اتسعت
أحوالهم وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم ذلك إلى السكون
والدعة، واستكثروا من الأقوات والملابس، و توسعة البيوت واختطاط المدن
والأمصار للتحضر، و هؤلاء هم الحضر، أهل الأمصار و البلدان
فلفظة البدو عند ابن خلدون تشمل الرعي و فلاحة
الأرض، فإذا انتقلنا إلى الحضر بدأ امتهان الصنائع و المهن الاخرى التي
تدعو إليها معيشة الحضر، و منهم من ينتحل التجارة، وتكون مكاسبهم أنمى
وأرفه من أهل البدو بشكل عام، فالبدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم
العاجزون عما فوقه و الحضر هم المعتنون بحاجات الترف و الكمال في أحوالهم و
عوائدهم. و كلنا يفهم هذه الرؤية، و التاريخ المعاصر يشهد، و إن كانت
المسافة بعيدة جدا بين بدايات نشأة المجتمعات و تحولها من بداوة إلى حضارة،
و لعل ابن خلدون لم تصور هذا المدى الذي تحول فيه الرعي و الزراعة إلى
صناعات، مستقلة عن الرعي أو الفلح لحفظ العيش، قد صارا صناعات و نظما
اقتصادية قائمة، لا تبغي فقط تحصيل ضروريات العيش، بل موجهة بالدرجة الأولى
إلى أعمال أخرى تتحقق فيها الأرباح الطائلة
فالبدو إذن هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح
والقيام على الأنعام، وأنهم مقتصرون على الضروريات، و يتميز أهل الزراعة
منهم بالميل للاستقرار، فهم سكان المدر والقرى والجبال، وهم عامة البربر
(أهل شمال غرب أقريقيا) و الأعاجم، عند ابن خلدون، بينما كان التقلب في
الأرض أصلح أصلح للرعاة، مثل بعض البربر والترك و إخوانهم من التركمان و
الصقالبة (في شمال و غرب و أواسط آسيا). فلما تحدث عن العرب قال إن من كان
معاشهم في الإبل فهم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً، لأن مسارح التلول
ونباتها وشجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر
وورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى
دفء هوائه، إذ الإبل أصعب الحيوان فصالاً ومخاضاً، فكان رعاة الأبل من أشد
الناس توحشاً (و هو في هذا اللفظ يعني أكثر بعدا عن أسباب الرفاهية و
التنعم)، و قال إن هؤلاء هم العرب، و مثلهم بعض ظعون البربر و زناتة
بالمغرب و الأكراد و التركمان و الترك بالمشرق، إلا أن العرب أبعد نجعة
وأشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط، بينما الآخرون يرعون
الشياه و البقر معها. و لا يجب أن يكون في هذا الكلام ذم أو مدح، فهو يشير
إلى أجيال العرب الأولى في عصور ماقبل الإسلام و قبل أن ينقلهم الإسلام إلى
حضارته، و هو يقول إن البدو أصل المدن و الحضر، و إذا فتشنا أهل أي بلد من
البلاد وجدنا بدايات أكثرهم من أهل البدو (بمعناها الواسع لا بمعناه الضيق
السائد حاليا و المقصور على أنهم الرعاة) بناحية ذلك البلد، و قد و تغيروا
إلى الدعة و الترف الذي في الحضر فأحوال
الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة و هي أصل لها، ثم إن كل واحد من البدو و
الحضر متفاوت الأحوال من جنسه، فرب حي أعظم من حي و بلد أعظم من بلد و
مدينة أوسع من مدينة و أكثر عمراناً و هكذا.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)