الجزائر - A la une

همس الكلام
غذاء الروح و حرف يغير وضعا بأكمله تلك هي المسألة التي يبحث عنها أجيال فتية، ناشئة، تخطو خطواتها الأولى على دروب الثقافة، وفي حقولها المتنوعة، وهي في مرحلة تلمس مساراتها، والتعرف على ملامح الأدب، وعوالمه، ومكوناته، وقيمه ، فلقد اكتسحت الحياة الأدبية وعلى نحو غير مسبوق منذ سنوات القرن الماضي ، موجات متتالية من كتب صادرة في حقول الشعر والقصة والرواية لا لون لها ولا طعم، حتى أن زائر المكتبات لم يعد بإمكانه تمييز عناوين الكتب الصادرة، ولا حفظ أسماء أصحابها، لفيض ما صدر منها، ولتزاحمها على الرفوف والواجهات، ولتغطيتها إعلاميا بالأخبار والمراجعات الصحافية! فهل فيض كهذا هو ظاهرة صحية تدل على ارتفاع منسوب الثقافة في بلداننا ، وازدياد أعداد الكتاب والمبدعين، أم حالة مرضيّة تشير إلى تدهور الثقافة وتراجع القيم النقدية الجادة.الأمر الآخر، هو أن جيل القرن الماضي من الكتّاب والفنانين -مثلا- إنما ولدوا من رحم مبدعين كبار سبقوهم، فنهلوا من أعمالهم، وتربوا على القيم الإبداعية النقدية الرفيعة، معترفين بأفضال الرعيل السابق، ومتهيبين إزاء تقديم منتجهم القصصي والشعري والروائي والمسرحي، إلى أن يتم تشبّعهم بالثقافة، والتأكد من نضج مواهبهم وملكاتهم للتمكن من رفد نهر الإبداع بجدارة.في حين أن الحادث في السنوات الأخيرة ، هو غياب القيم النقدية في الحياة الثقافية، بحيث شاعت -لا أدري من أين؟- مقولة: "قتل الأب" وتم العمل وفق "إلغاء تجنيس الأدب" وتحطيم سلطة أحرف الحاء الثلاثة: الحدث، والحبكة، والحوار، ومحو علامات الترقيم، فظهرت نصوص لا جنس لها، أبرز ما فيها، وأوحد ما يميزها كلمات مرصوفة إلى جانب كلمات!.فتحت الأبواب، وتوزع الحق على الجميع، وتهيجت الرغبة في المطبوع، فطفق طبيب -على شهرته في مهنته- يسعى لظهور اسمه في كتاب، وعمل مهندس -على تميز فنه المعماري- على إصدار أي مطبوع، وعزَّ على المحامي -رغم براعته في المحاماة- ألا يكون من عداد الكتّاب والفنانين.وخلف هؤلاء اندفع مديرو مؤسسات ووزراء (وحتى بعض رؤساء دول) وقد شعروا بالنقص جراء خلو مكاتبهم الفخمة من كتاب يزينها بأسمائهم والتحق بهؤلاء طلاب جامعة منحهم نيل الشهادة شعورا بالكفاءة والجدارة -فضلا عن الحق- كي ينضموا إلى كوكبة الكتاب والفنانين.قد يقول لي البعض : ولكن حق الناس في التعبير -ومن جملته الكتابة والنشر- حق مقدس لا تجوز مصادرته أو التضييق عليه، وهذا صحيح. غير أن من الصحيح أيضا أن القراء ليسوا حقولا ومخابر لإجراء التجارب عليهم من قِبل كل من رغب أن يجرّب!ما أرمي إليه أنه لا بد من مرجعية نقدية للقيمة الفنية ولمستوى الأداء في الأدب والفن أسوة بمرجعيات مختلف المنتجات التي تتعلق بحياة الناس. أليس لمنتج المواد الغذائية مرجعية تقوّم وتضبط وتحدد الفاسد من الصالح؟ فلِمَ في حقل النشاط الفكري والأدبي والفني، والذي يتعلق بالغذاء الروحي للناس، وببناء ثقافتهم، وبإنشاء أجيال كاملة ستتولى، فيما بعد، إدارة المؤسسات والهيئات والمراكز.. لم يصبح الحديث عن وجود مرجعية نقدية قيمية بمثابة مصادرةٍ لحق التعبير عن الرأي؟! لم يُترك الحبل، ههنا ، على الغارب ليجرب من يشاء بالناس ما يشاء؟!إن الدعوة إلى توفر مرجعية تقويمية قيمية لا تهدف، على الإطلاق، إلى إلغاء حق التعبير أو مصادرته، بل هي من باب الحرص على ذائقة المتلقين من أن تفسد، وعلى ذائقة الناشئة منهم من أن تنمو على الاستسهال والهشاشة فتسعى، بدورها، لأن تزيد من حالة التخريب للثقافة والإبداع.إن أسوأ ما يمكن أن نسلكه في الحياة الثقافية بعامة هو أن نطلق يد الردَاءة والهشاشة من دون ضوابط، ونركن مطمئنين إلى مقولة "البقاء للأصلح" في فرز الغث من السمين، لأن وضع الصالح حينئذ، سيكون أشبه بوضع إبرة ذهبية في غمار من القش الفارغ!


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)