الجزائر - A la une


مساهمة
من الصعب أن تمشي امرأة في عمر الزهور حافية القدمين ، وهي لا تمتلك سوى إرادتها الفولاذية و عزيمتها و إيمانها بالرسالة التي آمنت بها ، حيث تقتحم حقول الأشواك و تلج عالما رجاليا ملغما عبر المسالك الوعرة و الطابوهات على امتداد مسيرة تتجاوز ستين عاما...كانت شابة في عمر الزهور عندما تركت القلم و السبورة والمدرسة ، معلمة تُدَرِّس الصبية في المدينة ، وقد امتشقت البندقية لتكون مجاهدة تخوض مع رفقائها الرجال من المجاهدين الأشاوس المعارك في قمم جبال الجزائر من أجل استعادة الاستقلال واسترجاع السيادة ، و كانت مستعدّة لتنال الشهادة مثل كل شهداء ثورة أول نوفمبر الخالدة، لكن الله كتب لها أن تعيش لتحضر عيد استرجاع السيادة المغتصبة و لتساهم في بناء الوطن مع بناته وأبنائه ، هي امرأة عصامية تحدَّتِ العادات و التقاليد ، كما تحدَّتِ المستعمر بالأمس ، فقد قررت " زهور ونيسي " بنت مدرسة جمعية العلماء المسلمين أن تواجه كل الصعاب التي كانت تعترض إعادة بناء الوطن و قد استعاد استقلاله عام 1962، لتواجه واقعا مأساويًا كانت تعيشه المرأة الجزائرية ، حيث الآلاف من أرامل الشهداء واليتيمات و المعطوبات ، و حيث تضرب الأمية أطنابها في صفوف معظم حرائر الوطن .وفيّة للحرف و الكتابةلم تترك المدرسة، ولم تغادر التعليم و التعلُّم، و لم تغب عن واجبها في العمل ، حيث كان الوطن يحتاج مثيلاتها من المتعلمات القلائل في تلك الفترة المبكرة من الحرية المستردة ،فقد عملت في مكتب الأستاذ " توفيق المدني" وزير الأوقاف رحمه الله مساعدة له ، وهو رجل مثقف خلوق .. لكن عصامية زهور لم تقف عند حد معين، لا عند الوظيفة الواحدة، ولا أمام المهمة الواحدة، و لا النضال الواحد،لقد عملت و ناضلت في كل الاتجاهات بقدرة تفوق قدرة كثير من الرجال .انضمت إلى مجموعة من الكتاب و الصحفيين اليساريين ، و هي ابنة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، في فريق تحرير صحيفة " الجماهير " التي كان وراء إنشائها الراحلان الطاهر وطار و الطاهر بن عائشة إلى جانب رفيقهم التونسي الأخضر عفيف ، انضمت للجامعة طالبة مجتهدة حيث نالت شهادتي ليسانس ، و عادت للتعليم معلمة في المدرسة و أستاذة في التعليم الثانوي و الجامعي ، كانت هِمَّتُها عالية مثل كل كبار و كبيرات الوطن ، و لكن زهور بالرغم من كل هذا الجهد المضني الذي لا يقوى عليه إلا كبار النفوس و أصحاب الهمم العالية بقيت وفية للحرف و الكتابة ، فقد كتبت المقالة الصحفية ، و كتبت الرواية و القصة و المسرحية ، كتبت للإذاعة و التلفزيون و للمسرح و كتبت للسينما، و أصدرت العديد من الكتب بما فيها سيرتها الذاتية التي عنونتها " عبر الزهور و الأشواك مسار امرأة " ، في عام 1970 كانت زهور إلى جانب مجموعة من مناضلات الحرف وراء تأسيس مجلة الجزائرية ، و هي مجلة شهرية متخصصة في عالم المرأة، و استمرت على رأسها رغم مشاغلها المتعددة في عالم التعليم و على رأس الأمانة العامة لاتحاد النساء الجزائريات إلى غاية 1983 عندما أصبحت أول امرأة في تاريخ الجزائر المستقلة تتولى حقيبة وزارية ، حيث أسندت لها كتابة الدولة للشؤون الاجتماعية قبل أن تتم ترقيتها لتصبح وزيرة للتربية الوطنية .لقاء لا ينسىأتذكر قصة طريفة وقعت لي معها في بداية تعيينها كاتبة للدولة للشؤون الاجتماعية.. كانت الجزائر في تلك الفترة تعاني من ظاهرة النمو الديمغرافي ، و راحت السيدة زهور تقوم بحملة توعية وسط العائلة الجزائرية في ما عُرف بتنظيم النسل ، كنت وقتها رئيسا للتحرير بالقناة الأولى للإذاعة الوطنية، و أعددت حلقة من برنامجي الأسبوعي قضية و تحليل لذلك الموضوع ، و أتذكر أن إطارات الأمة كانت مدعوة في اليوم الموالي لاجتماعٍ حول موضوع تقييم مسار التنمية بقصر الأمم في نادي الصنوبر برئاسة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد رحمه الله ، و عندما كنت أهم بالدخول إلى قاعة الاجتماع عبر البوابة الرئيسية وجدتُ الثلاثي أحمد بن فريحة بقامته الطويلة ، و الذي كان يشغل منصب كاتب الدولة للصيد و النقل البحري ، و محمد رويغي بقامته المتوسطة ، والذي كان يتولى منصب كاتب الدولة للغابات و تثمين الأراضي، و كانت تتوسطهما السيدة زهور ونيسي كاتبة الدولة للشؤون الاجتماعية ، و إذا بالسيدة زهور تحييني بحرارة و تقول معلقة على برنامجي : يا سي محمد لو أن الشعب الجزائري استمع إليك بالأمس عبر برنامجك الإذاعي ، لأقتنع تماما بعدم المزيد من الإنجاب ، و رحتُ حينها أبتسم وأخاطبها : يا سيدتي الوزيرة، ما رأيك في أن صاحب البرنامج و - كنت أقصد نفسي كان خارج ذلك التصنيف..و راح الجميع يبتسم، لكن السيدة زهور راحت تسألني بحسها السياسي و حدسها الصحفي: و كم لديك من الأبناء إذن ؟.فقلت لها : خمسة و قد كان لدي وقتها خمسة أبناء قبل أن أتجاوز بعد أعوام من ذلك هذا العدد حفظهم الله جميعا، و أتجاوز بذلك الخطة التي وضعتها السيدة زهور لتنظيم النسل في الجزائر !! مبروك عيدك ال80 كانت نضالات السيدة زهور متعددة كذلك في مجالات السياسة ، فإلى جانب كونها مناضلة من الرعيل الأول في صفوف جبهة التحرير الوطني ، فقد انتخبت نائبة بالمجلس الشعبي ، مثلما عينها الرئيس عبد بوتفليقة عضوا في مجلس الأمة عن الثلث الرئاسي لاحقا ، لكن وفاءها للحرف و الكتابة و النقاش الفكري ظل يطبع معظم أعمالها ، و بعد كل هذا ماذا عساني أن أقول للصديقة العزيزة السيدة زهور في عيديها الاثنين ، عيدها ال80 و قد وُلدت في مدينة قسنطينة منذ ثمانين عاما ، و لكنها ما تزال شابة متقدة الذهن صافية الذاكرة ،تتذكر أبسط الأشياء مثل نبلها و صفاء قلبها ، و عيدها الثاني مع كل نساء الوطن و نساء الكون في هذا الثامن مارس 2016 ، لقد تحديتِ الأشواك ، و قهرتِ الصعاب ، وتجاوزت كثيرًا من الألغام ..و هاأنت تتحدين الزمن ..فطوبى لك بعيديك..عيدك الثمانين و عيد الثامن مارس مع كل أخواتك من حرائر الوطن وحرائر العالم ، تحياتي الخالصة أيتها الزهرة التي تحدت الأشواك ، تحية أيها الناسكة المتعبدة و اللطيفة في خلوة الكتابة و الإلهام و الإبداع، و كل عام و أنت بألف ألف خير يا زهور.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)