الجزائر

مؤسسات الدولة ''معطلة'' والشعب يستنجد بالشارع بعد مرور خمسين سنة عن الاستقلال




مؤسسات الدولة ''معطلة'' والشعب يستنجد بالشارع                                    بعد مرور خمسين سنة عن الاستقلال
هل بلغت درجة صمم أذن مؤسسات الدولة إلى درجة من الانسداد جعلتها لا ترى مطالب المواطنين إلا عندما تقطع الطرق العمومية بالمتاريس وتضرم النيران في العجلات المطاطية، ويتصاعد منها الدخان الأسود؟ أم أن هذه المؤسسات الرسمية لها قدرة نظر تساوي عشرة على عشرة حول كل ما يجري، ولديها حاسة الشم، وحتى الحاسة السادسة، لكنها محكومة باللامبالاة، وتنادي حتى بعد مرور خمسين سنة عن الاستقلال بما قاله الشاعر ''أعطني حريتي أطلق يداي''؟ واقع حال مؤسسات البلاد يعطي الانطباع بأنها مكبلة بالسلاسل والقيود، وليس بإمكانها التدخل، حتى في أبسط المشاكل، ويتم الزج بقوات محاربة الشغب لفض اشتباكات الشوارع. وكل من يتحدث يرفع يده بأن الحل موجود ''فوق'' عند رئيس الجمهورية، وكأن الجزائر لم تعد جمهورية لديها مؤسسات قائمة بذاتها، وتملك ناصية الحل والربط وتشارك في صياغة القرارات وفي تنفيذها. ما يجري في الواقع لا يشير إلى أي من ذلك..

وزارات قياسية ومسؤولون دون صلاحية
الشارع يتحول إلى أكبر هيئة وطنية تحل مشاكل الجزائريين
رغم أن عدد الحقائب الوزارية التي يتشكل منها الفريق الحكومي يقارب ال40 وزارة، وهو رقم قياسي مقارنة بوضع حكومات أخرى، غير أن ذلك لم يغير كثيرا في التعاطي مع قضايا المواطنين، الذين يلجأون للشارع، وكأنه أكبر هيئة منتخبة في الجزائر، لإسماع أصواتهم وتحقيق مطالبهم.
منذ أحداث 5 جانفي ,2011 أو ما سمي بأحداث السكر والزيت، إلى غاية جويلية ,2012 لم يتوقف يوما الشارع عن احتضان احتجاجات المواطنين والعمال والموظفين. وبلغة الأرقام تجاوز عدد الاحتجاجات ال11 ألف احتجاج في السنة الواحدة، وهي أرقام مخيفة توحي أن البلاد تقف فوق كف ''عفريت''، ومعرضة لاهتزازات ارتدادية، توحي بموعد الانفجار الكبير. وما لوحظ في هذه الاحتجاجات، على اختلاف المطالب المطروحة فيها، من ترحيل السكان إلى حوادث المرور، مرورا بالسكن والبطالة والمطالبة بالزيادة في الأجور والعلاوات المهنية، أن فرق مكافحة الشغب، التابعة لمديرية الأمن الوطني، هي التي تكون دائما في الواجهة للتحاور مع المحتجين، تارة بالهراوات وتارة أخرى بالغازات المسيلة للدموع، رغم أنه لا علاقة لها بالمشكل، وليست الجهة الوصية، المخولة قانونا، بإيجاد الحلول لها.
ورغم أن تدخل قوات الأمن، خصوصا في العاصمة، يندرج ضمن استمرار السلطة تنفيذ الحظر على المسيرات والتظاهرات، غير أن الاستنجاد بأعوان الأمن، في كل مرة يخرج فيها المواطنون للاحتجاج في الشارع، يطرح أكثر من علامة استفهام. فلماذا لا تتحاور الإدارات والوزارات والمؤسسات الوصية، وتقوم بمعالجة المشاكل وهي في المهد، قبل أن تستفحل وتتدحرج مثل كرة الثلج وتخرج للشارع؟
يظهر هذا الوضع المتكرر، منذ العشرية الأخيرة، أن مصالح الأمن أضحت تستعمل من قبل المسؤولين كدروع بشرية، لتغطي على تقصيرها وإهمالها لقضايا المواطنين، على غرار استعمال العدالة لإجهاض نداءات للإضراب دعت إليها النقابات العمالية، بحجة عدم شرعيتها، رغم أن الحق في الإضراب مكرس دستوريا. صحيح أن الكثير من مؤسسات الدولة ضعيفة وهشة ماليا وبشريا، على غرار البلديات والدوائر والولايات التي هي على صلة مباشرة ويوميا بالمواطنين، لكن ما يطرحه الجزائريون من قضايا لم تكن يوما تخص تعديل الدستور، أو تغيير النظام الانتخابي، أو تغيير الوزراء، حتى يتطلب الأمر تدخل أعلى السلطات في البلاد، بل كل القضايا التي أخرجت المواطنين للاحتجاج في الشارع، هي مشاكل بسيطة يحلها بواب البلدية لو كان ''المير'' يمارس صلاحياته، ويعالجها الوالي لو كان مستقلا في قراراته، ويفصل فيها الوزير لو كان صاحب سلطة في وزارته. الحاصل أن كل المسؤولين في كل المستويات ينتظرون دوما أن يأتيهم ''الإيعاز'' من ''فوق''، لأن كل شيء ممركز في هذا البلد. الجزائر: ح. سليمان

كل الاحتجاجات والمطالب تتجه صوب رئاسة الجمهورية
الرئيس ألغى دور المؤسسات وأضحى هو الواجهة
ما الذي يجعل آلاف أعوان الحرس البلدي المحتجين يأتون من البليدة للتوجه إلى رئاسة الجمهورية لتبليغ مطالبهم الاجتماعية والمهنية؟ هل حلت جميع مؤسسات الجمهورية، من حكومة وبرلمان وولاة، ولم تبق هناك سوى مؤسسة الرئاسة؟ أم أن ذلك ليس سوى صورة من صور ''الخصوصية'' الجزائرية في منظومة الحكم؟
ساد في السنوات الأخيرة خطاب سعى مرددوه إلى ''تتفيه'' مؤسسات الدولة الأخرى، واختصار الأمر في مؤسسة وحيدة، هي رئيس الجمهورية، أو بالأحرى في شخص وحيد، هو الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي يعمل لفائدة الشعب، بينما بقية المؤسسات الأخرى، على غرار الحكومة والبرلمان والولاة ورؤساء البلديات، مضروبة في شرعيتها ولا يهمها مصالح المواطنين، وكأن هذه الهيئات فرضت نفسها بنفسها، ولم تكن محصلة قرارات لم تكن لتكون لو لم يصادق عليها رئيس الجمهورية.
والنتيجة لهذا الخطاب، الذي نشر على أوسع نطاق، أن المواطنين اختصروا الطريق للتبليغ عن مشاكلهم ومطالبهم، بالتوجه مباشرة نحو رئاسة الجمهورية، بعدما تولدت لديهم قناعة أن ''الحل'' لا يوجد في أي مكان، باستثناء رئاسة الجمهورية، إلى درجة تردد، عقب احتجاج أعوان الحرس البلدي، أن رئيس الجمهورية أمر وزير الداخلية بالتدخل ومعالجة ما يطرحونه من قضايا ومطالب. فما الذي يجعل وزير الداخلية لا يبادر بحل مشاكل تقع قانونا تحت وصايته، وينتظر أن تأتيه الأوامر من ''فوق'' حتى يتحرك؟ لا يعقل أن يكون وزير الداخلية لا يعرف مجال اختصاصاته، ولذلك فإن القضية تكمن في مدى توفر مؤسسات الدولة على ''هامش التحرك'' لحل قضايا المواطنين. هل تعامل المؤسسات الرسمية الأخرى، والوزارات، والبلديات، والدوائر والولايات، على أنها مؤسسات وسيطة، لها من ''الصلاحيات'' ما يخولها لإصدار قرارات وتعليمات نافذة؟ أم ينظر إليها على أنها مؤسسات للزينة، ولاستهلاك الميزانية، ومنزوع منها سلطة القرار؟
تعد الجزائر الحالة الفريدة التي يتوجه فيها المواطنون المحتجون عن انقطاع مياه الشرب، أو الكهرباء، أو عن سوء توزيع السكن، أو العاطل عن العمل، أو المقصى من قرعة الحج، أو المطالب بالزيادة في الأجور، باتجاه رئاسة الجمهورية، وليس باتجاه الوزارات المعنية بهذه القطاعات، وكأن البلاد بها مؤسسة واحدة هي رئاسة الجمهورية، ولا توجد بها لا وزارة، ولا حكومة، ولا برلمان. كما أنه لا يعقل أن تكون هناك وزارات وهيئات، لكن أبوابها مغلوقة بالإسمنت المسلح، ولا تعترف بوجود المواطن، حتى لا نقول بمشاكله.
هذه المعطيات تؤشر لوجود خلل في منظومة الحكم لم تعد تتماشى كلية مع درجة تطور احتياجات المجتمع، الذي لجأ، أمامها، إلى تبني طرق احتجاج عنيفة، على غرار الانتحار، وحرق الجسم بالبنزين، والإضراب عن الطعام، والخروج للشارع، وهي صور تقتضي ضرورة أن يكون هناك مسؤول يملك حق الحل والربط في كل بلدية وولاية، وعدم ترك كل السلطات في يد شخص واحد، سواء رئيس الجمهورية، أو غيره، مهما كانت درجة قربه من الشعب، لأن وجود مؤسسات بلا صلاحية معناه عدم القدرة على محاسبة مسؤوليها، وعدم الحساب يفتح باب الاحتكام للشارع.
الجزائر: ح. سليمان

على النقيض

نائب رئيس المجلس الشعبي الوطني مكلف بالشؤون العامة جيلالي فنيبر ل''الخبر''
''نزول المواطن للشارع من مظاهر الديمقراطية''
لا يخفي جيلالي فنيبر، نائب رئيس المجلس الشعبي الوطني، عن التجمع الوطني الديمقراطي، شكوكه في وجود قوى وراء ارتفاع وتيرة الاحتجاجات الشعبية في الفترة الأخيرة، لتزامنها مع مرحلة الانتخابات، حيث تكثر، حسب رأيه، ''الدسائس وعمليات التضليل''.
وقال نائب رئيس المجلس الشعبي الوطني المكلف بالشؤون العامة، في رد على أسئلة ''الخبر'' حول تنامي ظاهرة الاحتجاجات، في ظل عجز هيكلي لمؤسسات الدولة وتخلفها عن النظر في المطالب والحاجيات، ''نحن في مرحلة انتخابات، وهذا يفرز صراعات وتجاذبات، توظف فيها مشاكل المواطنين لأغراض انتخابية''. واستدرك '' أن نزول المواطن للشارع من مظاهر الديمقراطية، لكن ما هو مرفوض هو اللجوء للعنف، أو قطع الطرق وشل الحركة المرورية، لأن ذلك عقاب للمواطنين الآخرين''. وتساءل ما ذنب المواطنين الآخرين، لماذا تعطل مصالحهم؟
وسجل فنيبر مبالغة في رد الفعل من المحتجين، وقال هناك أساليب أخرى لانتزاع حقوقهم، عبر الحوار أو اللجوء إلى القضاء لمتابعة المسؤولين أو الموظفين الذين عطلوا مصالحهم أو رفضوا تنفيذ القانون، وأضاف أن هناك مواطنين لجأوا إلى القضاء وانتزعوا حقوقهم. وأبرز، أيضا، أن القانون أتاح للذين لم يجدوا أنفسهم في قوائم السكن، تقديم طعون أمام الجهات المعنية. أما مسألة انقطاع التيار الكهربائي في رأيه فيجب مراعاة الظروف والمرحلة، حيث تحول النمط المعيشي للجزائريين (الرفاهية المنزلية).
واستغرب، في هذا الإطار، نزول أعوان الحرس البلدي للشارع، متسائلا ''كيف لهم أن يتظاهروا؟.. هذا تنكر لفضل الدولة عليهم، لقد سلحتهم، ثم وظفتهم، ومنحتهم أجرة شهرية بعدما كانوا متطوعين فقط''.
ونفى جيلالي فنيبر التهمة الموجهة لمؤسسات الدولة بالعجز عن الاستجابة لانشغالات المواطنين، ما يفسر كثرة الاحتجاجات في الشارع، والتي بلغت 11 ألف انتفاضة سنويا، حسب الإحصائيات، قائلا ''إن كل الهيئات الإدارية والمنتخبة تلعب دورها، ووفق ما هو متاح لها، مضيفا ''كمنتخبين نحن نتولى توجيه المواطن، ونبذل كل ما في وسعنا لحل المشاكل بالطرق الودية''.
وفي رأيه فإن ''العاجز الفعلي هو من يرفض الاعتراف بالحقيقة''، مستدركا ''هذا خطاب معارضة، ومهما يقال ويرد في الصحف فلا يمكن أن ننكر وجود منجزات كثيرة تحققت، والدولة موجودة ومؤسساتها قائمة، والجزائر كلها ورشات من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال''.
الجزائر: حاوره ف. جمال

القيادي في حركة النهضة والبرلماني السابق محمد حديبي ل''الخبر''
''السلطة تعتمد آلية الولاء وليس الكفاءة في التعيينات في المناصب السامية''

لماذا تحوّل الشارع إلى أداة لحل مشاكل المواطنين؟
السبب في هذا هو فقدان الأمل في التغيير عن طريق الوسائل السلمية، ومن خلال المؤسسات الرسمية، أي إدارة الدولة والمجالس المنتخبة، إيمانا منه أن هذه المؤسسات لا تمثله. المواطن حاليا على قناعة أن أحسن طريق لإيصال رسالته هو لغة الشارع خارج قوانين الجمهورية، التي أصبحت مكبلة في أيدي جماعات تمارس الكذب على الشعب بمسميات مختلفة.
ما الذي أفرغ مؤسسات الدولة من ممارسة دورها، حتى أصبحت عاجزة عن مواجهة مشاكل المواطنين؟
إن غياب إرادة سياسية صادقة من السلطة لتسليم السلطة للشعب وممارسة الحجر السياسي عليه، واعتباره شعب قاصر وغير ناضج سياسيا، جعلها تعتمد آليات عفا عليها الزمن في التعيينات في المناصب السامية أو انتخاب ممثلي الشعب، وهي الولاء والتزوير وليس الكفاءة والنزاهة، وبالتالي أصبح ولاء هؤلاء الأشخاص أسرى السلطة التي يستمدون شرعيتهم منها. وتبعا لذلك وجد الشعب نفسه أمام سبيل واحد لإسماع صوته: الشارع لا غير.
هناك قراءة تقول بأن في الجزائر رئيس جمهورية وليس مؤسسات للدولة ؟
هذا هو الواقع للأسف، كنا نأمل أنه بعد نصف قرن من الاستقلال تحقيق دولة مؤسسات وليس دولة أشخاص، لكن الواقع غير ذلك.. لم نصل إلى بناء مؤسسات دولة، لقد تميعت السلطة والقرار. وهناك حالة انفلات مؤسساتي، سواء في المؤسسة التشريعية أو الرئاسية أو القطاعات الوزارية. لا نعرف من يصنع القرار ومن يحاسب من ؟
البلد في خطر كبيرا ونحن في هذا الوضع، الخطابات الرسمية في واد والواقع في واد آخر. المؤلم أن هناك انحرافا لمؤسسات الدولة، ولا توجد خطط للاستجابة لهذه التحديات والطلبات الملحة للمواطنين.
والحل في رأيكم؟
يجب فتح حوار جدي وحقيقي، دون مساحيق، مع كل مكونات المجتمع، أحزاب الموالاة والمعارضة، بما في ذلك غير المعترف بها، للخروج من المأزق، لأن الوضع سيزداد احتقانا. ونخشى من انفلات أكبر وتحول الجزائر إلى هدف لأجندات خارجية.
الجزائر: حاوره ف. جمال
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)