الجزائر - A la une

لماذا تخلفت المجتمعات العربيّة




لماذا تخلفت المجتمعات العربيّة
إذا تطّلع المرء إلى أحوال المجتمعات العربية والتفت إلى أوضاعها بالمقارنة إلى المجتمعات الغربية، يجد التخلٌف يطغى عليها ويتفطن إلى الفتن السياسية والعقائدية التي تعتريها وتمزّق كيانها ويدرك مدى انتشار الإنحراف والزيغ ويعي ذيوع الركود والجهل ويشعر بهيمنة الشعوذة وغياب المنطق ويتنبّه إلى سيادة الظلم والاستبداد والجور، فيتألم لهذا الوضع المزري ويجزع وتهيج نفسه لهذا الظرف التعيس الذي تمر به البلدان العربية، وإذا إلتمس النجاة والخلاص فيتحقق من أن كثير ممن يديرون شؤون الشعوب العربية هم الذين يتزعمون ركب الفساد أو يعملون على تسرّبه داخل المجتمع، فتدب الحسرة في نفسه ويزداد غيظه وكدره.كان العلم عزة الأمة العربية الإسلامية وسر نهضتها وبه نشأت وانتقلت من الضعة إلى الرفعة. وبتطور سائر فنون المعرفة استقامت هذه الأمة وازدهرت محررةً الفكر البشري من أغلال الجهل والشعوذة والدجل واعتقت العقل من قيود الانغلاق والجمود والركود. وكانت وليدة غليان فكري لا مثيل له في تاريخ البشرية وتمخض عنه تراثاً فكريا وعلميا لا يزال يدهش كل من تعمّق فيه، وطالما كانت هذه الحضارة مثلا أعلى تثير إعجاب الكثير وتسمو على غيرها من الحضارات بحرية الفكر والاعتقاد الراسخ في القلوب لأنه لا وحشة بين الشرع المنقول والحق المعقول.مما لا شك فيه، أن الحضارة الأوروبية استمدت دعائم وأسس نهضتها من الجهد الجباّرالذي قدّمه علماء الإسلام في جميع الميادينِ. وهذه الحقيقة ليست مجهولة من جمهور العلماء والمثقفين في أوروبا والغرب عموماً فالكل يعلم أن علماء الغرب اتخذوا الحضارة العربية وما ترتب عنها من أعمال عبقرية نبراساً لهم وقد صرّح الفيلسوف روجي بيكون أن عرب العصور الوسطى كانوا ”شيوخ وأساتذةِ أوروبا”.وإذا انعقد الإجماع على أن التخلف قد استوطن المجتمعات العربية إذ بات يسري فيها سريان الوباء في الأعضاء، فلن يضرنا في شيء أن نتجاوز طور إثبات حلة التخلّف هذه ونتأمل في الأسباب والدوافع التي أدت بالحضارة العربية إلى التقهقر من يفاع التحضّر والتمدّن إلى حضيض التوحّش والجهالة.فنقول بادئ ذي بدء أن لفظ ”الحداثة” لم يفرزه اللسان العربي وهذا لا يعود إلى عجز اللغة بل يعود إلى عجز العرب والمسلمين لأن اللغة، مهما كانت عبقريتها وأسالييها التعبيرية لا تستطيع أن تفرز مصطلحات لا يمكن إسنادها إلى واقع معين.وما دامت اللغة لم تفرز من بين طيّاتها الألفاظ التي تدل على الحداثة وإبعادتها المختلفة، فهذا معناه أن المجتمعات العربية لم تمر في الحقب الماضية بأطوار الحداثة على خلاف المجتمعات الأوروبية.وإن صحّ أن لفظ الحداثة لا ينتمي إلى قاموس اللغة العربية الأصيلة، فهذه إشارة إلى أنه قد تم استيراد ثم تأقلم هذا المصطلح بينما لا يفتقر اللسان العربي للكلمات التي تدل على عكس الحداثة أي التقاليد والعدات والسنن والأثار والأخبار. ونجد هذه الألفاظ في قاموس اللغة العربية منذ العصور الغابرة. فإن تخلّف حضارتنا أدى بنا إلى إدخال مفاهيم تعكس أوضاع ووقائع لم تعرفها المجتمعات العربية وتعبّر عن علوم وفنون وتكنولوجيات لم يبدعها العرب والمسلمون. فما سرّ هذا الوضع ؟ الواقع أن الحداثة، مهما كانت أبعادها ومعانيها، هي في كل الأحوال عبارة عن عملية فصم رباط التقاليد الراسخة منذ القدم وقطيعة مع كل ما يشد أزرالسنن التي تحول دون التقدّم والنمو والتطوّر. فكان موقف الفقهاء والعلماء سلبي إلى درجة كبيرة لأنهم فسّروا الحداثة من المنظور الضيّق وأدمجوها إلى قاموس البدع وهذا سمح لهم بشن حرب ضارية على دعاة كل ما هو عصري مستحدث فاتخذوا من الحديث الشريف ”كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار” شعاراً يرعبون به كل من تجرّأ على توظيف العقل في أمور هذه الأمة، فاتحين المجال أمام دعاة الشعوذة وحلقات الذكر التي لم تكن يوما إلا أماكن ذيوع الجهل والسفاهة والغباء، فإن الطرقية كانت تساند الاستعمار وتنشهر أفكار الانكسار والركود. فكل من حارب العقل وزعم أن هذه الأمة لا تحتاج ضرورة إلى المنطق وإلى العلم الوضعي ونصّب نفسه محام للفكر التقليدي وأنكر التجديد، لا يمكن أن يكون على النهج السديد. فبينما أوروبا والغرب عموماً يشجعان الإبداع ويرحّب به، فعلماؤنا يرجمون الإبداع ويضمونه إلى الكفر والزندقة وكذلك يتعاملون مع العقل فتمخّض الجهل والدجل وأنجبا التخّلف. ولعل خير دليل على ذلك كثرة الإبداع والتطوّر في الغرب وانتشار رقعة التأخّر في العالم الثالث، وما دام الفقهاء والأئمة يتبنون فكرة أن الامتثال للشرائع يكفي للنجاة من هول النار والعذاب ويضمن الجنة للمتقيين، فلا سببل لنا للخروج من هذا الوضع التعيس.ويجب أن لا نتناسى أن العقل هو لبّ الحداثة. فعند قيّام النهضة الأوروبية، التي شارك في بعثها علماء أفذاذ، كان مشروعها إرساء قواعد مجتمع لا يخضع إلا للعقل والمنطق والعقل، كما كان يقول الفيلسوف ديكارت (Descartes) هو ”النور الطبيعي” الدي تقابله ” التجليات الما ورائية” والقى ديكارت الأضواء على مسيرة الحداثة وأطوارها في أوروبا إذ كان يقول في كتابه ”قواعد لاهتداء العقل” ؛ ”اعترف أني ولدتُ وفي نفسي نزعة عقلية تجعلني أجد اللذة القصوى في اكتشاف الحجج بنفسي لا في الإصغاء لحجج الغير”، بينما يتبنى علماؤنا التقليد الأعمى والانقياد للفقهاء والشيوخ والأمراء متجاهلين قول الرسول الكريم: ”صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس، الفقهاء والأمراء”.فباختيره العقل خلع ديكارت السنن عن عرشها إلى غير ما رجعة واجتث سلطانها ونفوذها جاعلاً من العقل المقياس الوحيد لصحة المعارف الوضعية إذ أن الأفكار والمفاهيم والأطروحات التي لا تخضع لمعيار المنطق لا يمكن أن تمد إلى الصحة والحقيقة باية صلة وهذا الموقف يعتبره رجال الدين خطرا إذ إنه يعني انهيار نفوذهم إن صح أن الشعوب الأوروبية لم تعد تصغي إلى خطبهم. ومهما يكن من أمر أدى اتخاذ العقل بالغرب إلى التقدم والازدهار وبقينا نحن الخاضعين لدعاة النقل وحده ندب في ظلمات الجهل والكسل والفتن والشعوذة بالرغم أن الإسلام لا يعارض ممارسة العقل، بل يشجعها إذ تقول الآية الكريمة: ”ونجعل الرجس على الذين لا يعقلون”. (النحل). والذين لا يعقلون في مجتمعاتنا اليوم هم شيوخ الطرقية ورجال الدين الذين لا يتكلمون إلا عن الماضي ولا يتناولون في خطبهم المشاكل الراهنة التي تتعرض لها الأمة وهم نفسهم الذين يتعجبون من انخراط الشباب في صفوف الجماعات المتطرفة، فهذا التطرف هو خير دليل على فشلهم.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)