الجزائر - A la une

شعرية الهامش ولعبة المرآة المقلوبة



قبل البدء:يقول موريس بلانشو في “أسئلة الكتابة”:«قراءة قصيدة ليست هي إعادة قراءة قصيدة، ليست حتى الدخول عن طريق هذه القصيدة في جوهر الشعر، قراءة قصيدة هو أن تكون القصيدة نفسها هي العاملة في القراءة، والمنتجة لها، تولد القراءة التي تستقبلها في الفضاء المفتوح من طرف القارئ، وتصبح قدرة على القراءة، تصبح اتصالا بين القدرة والاستحالة، بين القدرة المرتبطة بلحظة القراءة، والاستحالة المرتبطة بلحظة الكتابة”.ترجمة: نعيمة وعبد السلام بن عبدالعاليمجاورتان: الشاعر / المجموعة:الشاعر نور الدين طيبي من الأسماء الشعرية الكبيرة التي لم تنل حظهامن النقد ،إضافة إلى كونه مقل “لا يغرف من بحر” بل ينحت معناه من برق اللغة الوامضة الباذخة... ومن ثم تأتي نصوصه مثقلة بلذة الشعر وإشراقاته ونكهته المتميزة الذاهبة في نسغ المعنى باتجاه الإنسان في حالات انتصاراته وانكساراته وأحلامه وآماله وآلامه، دون الوقوع في كمائن الالتزام الإديولوجي / المرحلي / المناسباتي /العابر والمؤقت.تقع مجموعة: زغرودة الماء في 132 صفحة، وتضم بين دفتيها 20 قصيدة طبعت سنة 2000 عن اتحاد الكتاب الجزائريين (دار هومة) في شكل أنيق ودال، وكتب مقدمتهاالدكتور الناقد / علي ملاحي متبوعة (بعتبة / بيان) اختار له الشاعر عنوان: إلى قارئي........قراءة أولى:عند قراءتي للمجموعة تعرضت لحالة استفزاز على أن أكتب شيئا عنها لكن من خارج كل المناهج والمقولات النقدية بل من موقع القارئ المتذوق، لأن قصائد المجموعة وبدرجات متفاوتة تحرك فيك قلق الشعر ومستحيلات أسئلته، فبدءا من العنوان: زغرودة الماء الذي يأخذ بيدك على سبيل التخييل والتأويل إلى المعنى المقابل (فرح الحياة) إلى مجموع القصائد التي تتكرر فيهامفردات الماء/ البحر / الجزر، وهي الهاجس المركزي لدى الشاعر الذي ينقلك عبر ماءالحياة إلى بحر الاتساع والضياع والانفتاح لينتهي بك إلى جزر النجاة ذلكم الحلم الإنساني الدافئ الجميل الذي سيظل غاية الغايات ومبررا لبقاء الشعر على قيد الحياة.كان البدء/كان المنتهى:كان البدء بقصيدتين عموديتين وحيدتين في المجموعة، وكأني بالشاعر يوحي بإشارة ذكية على أن الحضور الفاعل للشعر مرور إجباري على ماضيه، وأولى القصائد: الأغنية الدم.. وهي حالة تلاقي غير مألوف في أن تكون الأغنية دما والدم أغنية إذ ينهي قصيدته بهذا البيت:تلك ليلى لكننا إن عشقناغير ليلى مهما حيينا مواتُوليلى هنا وطن الشاعر الذي لايعشق سواه... ورغم أن المرأة /الوطن صورة مستهلكة شعريا إلا أن الشاعر أثبت أنه قادر على تفجيرالمستهلك والخروج به إلى سياقات أخرى تؤسس لرؤيا جديدة ومختلفة، وآخر قصائد المجموعة: دعوة لفرح التي يختمها ب: وحدي أرى الله في بسمةالطفلفي زهرة الشهداءتعالي إذن نلتق الشعرفي وجه أبنائك الطيبينومن يغرسون الفرحْإنها تجليات شاعر رغم الدم /الوجع/الحزن/الضياع/الغربة ينتهي دوما إلى فرح يلتقي بأغنية بها قد بدأ... إنه تدوير شعري تأويلي قد لا يقصده الشاعر ...لكنها لالتقاء البداية بالنهاية ليبدأ الشعر رحلة أخرى من المخاتلة في غياب المعنى عن المتثائبين أمام النص الحداثي المخترقلكل المسلمات واليقينيات التي أبقت الشعر لدى الكثيرين (مجرد ظاهرة صوتية، وضجيج لغة، ورنين حركة وسكون )كانت القصائد/ كانت المرآة المقلوبة :علاقة بين دم الشهداء وفرح الحرية وبينهما زغرودة الماء الذي يجري بين صلب الإنسان وترائب الوطن المطعون في حبه وفرحه وشعرائه وماء الحياة فيه إذ يقول:أياعرس أحلامناوتفاصيل قوس قزحْمن متى الشعراء ينامون؟من متى الشعراء يموتون ؟اسمهم ...من تشائينهم ... يطلعون من الموتوالجرحوالعرسأسئلة للفرحْإنه تكثيف لحالة الشعر والوطن والإنسان والحب الذي تتصيده بنادق الظلام.. إنه الحلم المكسور في عيون الأطفال الخائفين ..لكن الشعراء لا يموتون بل يطلعون في أسئلة الفرح:كان بختي يزين وهران بالأسئلةكان يحملها في الأغاني إلى كبد الزهوكنا...دم القادمين من الضوءكنا طفولة هذاالمدىوسؤال الشجرْها هو بختي بن عودة يحيل على كل الدلالات.. أسئلة المعرفة/ أغاني الزهو /وهران البهاء والشعراء والشهداء القادمين مع الضوء فعل (كان) يوقظنا على فعل (صار) حيث تحولت الأشياء إلى نقيضاتها ..لكن الشاعر لم يرد إزعاجنا بصور الراهن وتركنا في كيف كنا باعتبار الراهن (معرفةمجاورة لنا ) في فداحتها وفظاعتها وحضورها الطاغي... وهنا فإن شعر نور الدين طيبي مرآةمقلوبة إلى الخلف (كنا) في وضع الأسف غير المصرح به عما إليه (صرنا) إذ تتكئالقصيدة عند الشاعر على أحلام الماضي الجميلة الموؤودة مديرة ظهرها (للراهن) دون أنتفضحه وتعريهتاركة مهمة ذلك للقارئ... واختار الشاعر رؤية الماضي في الحاضروالحاضر في الماضي من خلال مرآة واحدة اسمها القصيدة وهي تعكس أحلام الماضي الجميلةعلى قبح الراهن لأن “تتميز بضدها الأشياء”. وتتجلى هذه اللعبة الجميلة بشكل واضح في قصيدة: زغرودة الماء... التيكانت عنوانا للمجموعة أو اختزالا لما قاله الشاعر وما لم تقله النصوص تصريحا أو تلميحا، حيث تهيمن اللغة الباذخة المشاغبة المراوغةعلى القارئ، وتنقله على منطادالمعنى من سهول القول الشعري الفج وتلك الخضرة، إلى أعالي المرتفعات والمتخيلات الوعرة، ليرى بعينه الثالثة ما في الغموض الجميل من الوضوح الأنقى والأشهى والأبهى والأجمل.إن نورالدين طيبي من الشعراءالمتمسكين بالإيقاع كقيمة شعرية تضفي على الكلمة والجملة والسطرالشعري (موسيقى) تثير في القارئ شهوة (صوتية) إلى جانب لذاذات وإضافات اللغة المتأنقة في غير (تقعر) ولا مباهاة أو مساحيق، لكنها لغة شعرية تسأل ولا تجيب،تصدم/تدهش/تتآمر، حيث يجد المتلقي نفسه أمام بدايات عليه إتمامها وفراغات عليه ملؤها، وهنا تنتصر شعرية الهامش ولعبة المرآة المقلوبة عند هذا الشاعر، الذي يترقرق حبر الشعر بين أصابعه صفاء ونقاء ومحبة ومكابدة:وحده البحر قال:الرؤوس مدججة بال...غرابأما آن أن ترفعوها الجباه ؟إن زغرودة الماء عمل شعري يمكن تصنيفة ضمن إبداعات جيل المأساة، لكن المختلف عند الشاعر طيبي أنه يتعامل مع الواقع من زاوية أنه لا ينصب نفسه شاهدا على المراحل في أنها، بل يستدعي الماضي ويحيل الحاضر إلى مجرد متفرج عليه عبر تلك المرآة المقلوبة (إشادة أو إدانة) وهذاغير متاح سوى لكبار الشعراء الذين نضجت تجاربهم الشعرية إلى حد... لم يعد عندهالشاعر مجرد منفعل بما يحدث (الآن) بقدر تفاعله مع ما حدث (ماضيا) تاركا مجال المقاربة والمباعدة والتأويل للقارئ، وعليه فإن زغرودة الماء عمل شعري مثير لشهية القراءة والمتعة والمعايشة.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)