الجزائر - A la une

تحديثٌ محدود لم يتحرر من إرث دستور 89



حتى مع الإقرار بأهمية بعض التعديلات التي أدخِلت على مسودة لجنة لعرابة وتفكيكها لبعض الألغام، فإن الصيغة التي صوَّت عليها النواب بإجماع حزبي الأغلبية، قبل تثبيتها الأسبوع القادم أمام الغرفة العليا، لم تتأثر كثيرا بما وفد على اللجنة من اقتراحات، قيل إن عددها بلغ أكثر من خمسة آلاف مقترح، وما سيُعرض على الاستفتاء في الفاتح من نوفمبر، هي الصيغة التي صنعت بأعين لجنة لعرابة وكانت أثارت كثيرا من الجدل.ومن باب الأمانة، فإنَّ الصيغة المعتمدة قد وفرت ضمانات جديدة في باب الحقوق والممارسات السياسية الإعلامية، برفع القيود الإدارية عن إنشاء الأحزاب والمؤسسات الإعلامية، وأخضعت قرار الحل والمنع لإجراءات قضائية صرفة، ووسَّعت مبدأ العهدتين ليشمل عضوية البرلمان، بما يعِد بفرص التجديد السريع للطبقة السياسية، لكنها أدرجت في باب إعادة توزيع الصلاحيات، حالة من التداول بين صيغة حكومة برئاسة وزير أول يعينه الرئيس الحائز على أغلبية داخل البرلمان، وصيغة رئيس الحكومة المقترح من كتلة برلمانية حائزة على الأغلبية، هي ابتكارٌ لا نعلم كيف سينفذ على أرض الواقع، وربما تكون صيغة تستشرف احتمال وصول أغلبية برلمانية توجب على الرئيس التعايش معها.
وفي الجملة، فإن ما سيُقترح على الاستفتاء هو دون ما كان يسوَّق لدستور يؤسس لميلاد جمهورية جديدة، بل جاء التعديل كإصلاح جزئي لبعض الثغرات في الدستور القائم، لم يخرجنا عن المنهجية التي قام عليها دستور 89 وثبَّتتها التعديلات اللاحقة، فنحن أمام نظام جمهوري شبه رئاسي، يحتفظ فيه الرئيس بمساحة واسعة من الصلاحيات حتى بعد تقليصها في النسخة الجديدة، ولم تُمنَح المؤسسات المنتخبة على المستوى الوطني والمحلي صلاحيات حقيقية لممارسة الرقابة على الأجهزة التنفيذية، كما لم يأتِ التعديل بجديد على مستوى تفعيل وترقية السلطة التأسيسية للمواطن الناخب، الذي يتوقف دوره ساعة الانتهاء من فعل التصويت.
التعديل لم يأت بجديد أيضا على مستوى إعادة تشكيل المشهد السياسي القائم، الذي ثبُت فساده وانخراطه في منظومة الفساد، بل يكون التعديل الذي حرَّم على الدولة حلَّ الأحزاب والجمعيات بقرار إداري، قد حصَّن الأحزاب الموروثة عن العهد السابق من قرار الحل، ولم يلزمها بأي واجب دستوري بممارسة الديمقراطية الداخلية تحت رقابة قضائية تحرسها من العبث والغش ومن تخليد بعض نخبها على رأس مؤسَّساتها التنفيذية.
يقينا لا نعلم ما هي الظروف التي تكون قد منعت السلطة من فتح باب الاجتهاد لإعادة كتابة دستور جديد، يحرر البلد من إرث دستور 89 الذي لم يحم البلد من فتنة التسعينيات، كما لم تمنع التعديلات اللاحقة من سقوط مؤسسات الدولة المنتخبة بيد القوى الفاسدة، ولست متأكدا أن النسخة الحالية تكون قد فككت جميع الألغام التي زرعها المحرر الأصلي لدستور 89 وسكتت عنها التعديلاتُ اللاحقة، ومنها دسْتَرة ازدواجية اللغة الرسمية، في بلدٍ يعاني أصلا من انفصام لغوي رهيب، ومن تعطيل مستدام لتثبيت اللغة الرسمية للدولة بعد ستة عقود من الاستقلال.
الصيغة المعتمدة لدسترة الأمازيغية كلغة رسمية ثانية للدولة سوف تُنعش لسنوات قادمة الجدل القائم بين دعاة ترسيمها كلغة وطنية، سواء من جهة اختيار اللهجة المرجعية لها، أو من جهة حروف الكتابة، والقواميس المرجعية لها، أو من جهة تعميم تدريسها، أو التزام مؤسسات الدولة بتداولها كلغة رسمية في الإدارة والقضاء، فضلا عن تحريك النعرات الجهوية التي سوف تركب دسترتها بعد توثيقها بالاستفتاء الشعبي، وقد كان يكفينا في هذه المرحلة إدراج إلزام دستوري للدولة بترقية اللهجات المحلية الأكثر شيوعا، ومنح المؤسَّسات المحلية المنتخَبة فرص ووسائل تطويرها كميراث ثقافي يحافظ على التنوُّع، خاصة وأن العالم يشهد سنويا موت مئات اللهجات واللغات المحلية، بما في ذلك لغات لها إرثٌ مكتوب، ومقومات للتعاطي مع اكراهات الحياة العصرية.
ما أعلمه يقينا أن التعديلات المعتمدة ليست مؤهَّلة لتوليد جمهورية جديدة، وقد يحسن بنا أن نسوِّقها كأجراء استعجالي لتأطير مرحلة انتقالية صعبة محفوفة بالمخاطر تحتاج إلى قدر من التوافق إلى حين توفر ظروف سياسية محلية ودولية وإلى استعادة الاستقرار لصياغة دستور دائم وأصيل للبلد يوازن بين الثابت والمتغير في العقد الاجتماعي الجامع.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)