الجزائر - Ahmed Benbella


ودع الجزائريون، أمس، أول رئيس للجمهورية الجزائرية المستقلة.
وكان بإمكاننا ألا نحضر هذه الجنازة الرسمية، لو أن انقلاب 19 جوان 1965 انتهى مثلما تنتهي به أغلب الإنقلابات منذ الخلفاء الراشدين، باغتيال الرئيس بن بلة، ولما كانت عرفت الجزائر حتى أمس أربعة رؤساء سابقين على قيد الحياة.. الميزة التي لا تتوفر في باقي البلدان العربية.
عرفت اسم بن بلة وأنا صغيرة في السنوات الأولى للإستقلال، عندما كان رجال العائلة يجلسون في أمسيات الصيف الساخنة يتحدثون عن أسماء تتردد كثيرا في حديثهم الجاد، منها اسم بن بلة، بن خدة، بومدين وغيرها. ورأيت وجه بن بلة لأول مرة عن قرب أياما قليلة قبل الإطاحة به، وهو يزور مدينة ڤالمة، وكنتُ يومها محمولة على ذراع أمي التي كانت ملتحفة بملاءتها السوداء وهي تردد والعرق يتصبب على عجارها الأبيض "يحيا بن بلة". كانت النساء كثيرات في شارع سوداني بوجمعة بڤالمة، إلى درجة صار الشارع أسود لكثرة الملاءات. وبعد أيام من تلك الزيارة، بدأت تأتينا أخبار متقطعة، وسمعت لأول مرة كلمة "انقلاب" بالفرنسية، يرددها الكبار من حولي، ومازلت أتذكر كيف كنت ألاحق أخواتي، نعدو في الشوارع مرددين "يحيا بن بلة" ويلاحقنا رجال الشرطة، فنهرب ونختبئ وراء أبواب بيوتنا، وقتها فهمت أنه لم يعد باستطاعتنا ترديد هذه الأغنية التي كانت محببة لقلوبنا ونحن صغار، ولم يعد بوسع والدتي ونساء العائلة ترديد أغنية "يا سعدي تكبرلي فلة ونبايع بها لبن بلة"، التي كانت تغنيها وهي تفتل الكسكسي وتنجز أشغال البيت الأخرى.
مازلت أتذكر كيف سارعت زوجة عمي إلى نزع صورة بن بلة التي كانت تعلقها على حائط غرفتها وتخبئها في الخزانة، خوفا من السجن لو أن الشرطة داهمت البيوت ووجدت تلك الصورة معلقة..
ومرت الأيام وصار اسم بن بلة بعيدا عنا، تاركا المكان إلى اسم آخر بدأ يمتلك الوجدان.. وذات يوم بعد أحداث أكتوبر، سمعت صوت الرجل لأول مرة على أمواج إذاعة أجنبية، وهو ينسب لنفسه ولآخرين مثل ـ قال ـ وقوفه وراء أحداث أكتوبر، يقولها بلهجة مشرقية، حيث قال إن هناك أزمة سميد ومواد غذائية في الجزائر، وأن حركته المعارضة التي كان يديرها من سويسرا، هي ومعارضون آخرون، من حركوا الشارع الجزائري. فبدا الرجل بعيدا عن واقع الجزائر، وزادته لهجته المشرقية المتكلفة غرابة أكثر.. وعاد بن بلة في موكب بهيج إلى الجزائر في يوم رمزي "19 جوان 1990"، 25 سنة بعد الإنقلاب عليه. وسرعان ما طواه النسيان من جديد، وعاش من جديد بين الجزائر وسويسرا، إلى أن أعيدت له كرامته الكاملة بإلغاء الإحتفال بيوم 19 جوان الذي كان يطلق عليه مصطلح "التصحيح الثوري".. وألغي 19 جوان من طرف من تسبب فيه بصورة مباشرة.
وفاة الرجل فتحت من جديدة التساؤلات بشأن المسكوت عنه في تاريخ الجزائر، وقالت الصحافة الفرنسية إنه مات ولم يقل الحقيقة، ولا أدري أي تاريخ تريد فرنسا من بن بلة أن يكتبه، هل هو تاريخ برنار هنري ليفي، أم التاريخ الذي كتب بن بلة صفحة مضيئة منه مع ثلة من رفاقه؟!

حدة حزام

سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)