الجزائر

بعد أن استطاعت أن تسيطر كلية على المجالس العرفية المزابية،هل نجحت السلطة الجزائرية في القضاء نهائيا على ما بقي من الخصوصية المزابية؟؟



بعد أن استطاعت أن تسيطر كلية على المجالس العرفية المزابية،هل نجحت السلطة الجزائرية في القضاء نهائيا على ما بقي من الخصوصية المزابية؟؟
المزابيين هم أمازيغ ينتمي غالبيتهم إلى قبيلة زناته، يسكنون منطقة مزاب بالجنوب الجزائري منذ أقدم العصور و قد اتبعوا المذهب الاباضي بعد لجوء علماء الاباضية وأتباعهم إلى منطقة مزاب هروبا من الملاحقات والتصفية الجسدية التي تعرضوا لها من طرف خصومهم بعد سقوط الدولة الرستمية.
واستطاع المزابيون الذين مزجوا بذكاء بين الثقافة الامازيغية والمدرسة الفكرية الاباضية أن يعيشوا و يصمدوا لأكثر من عشر قرون في صحراء قاحلة و محيط معادي، عرضة للأطماع والغزوات والسلب والنهب وبأعجوبة استطاعوا أن يحافظوا على خصوصياتهم الثقافية و المذهبية وحضارة راقية مبنية على تقديس العمل والجدية وكذلك التسامح وتقبل الآخر وأن يعيشوا في رخاء في مدنهم التاريخية في استقلالية تامة وبدون وجود دولة مركزية متحكمة.
ويعود الفضل في تحقيق ذلك كله لنظام محكم نشأ ثم تطور نتيجة للاحتفاظ بالحضارة الامازيغية ومنها نظام "تاجمعت" من جهة و الاستفادة من دراسات أئمة الفقه السياسي الاباضي وتأقلمهم واستخلاصهم العبر من الاخطاء و التجارب المريرة والنكسات التي مر بها الإباضيون بعد سقوط الدولة الرستمية، وهذا النظام يرتكز على عدد من المجالس أو الهيئات التي تتولى تنظيم وتسيير المجتمع المزابي، ولها في المجتمع المزابي نفس أدوار السلطات الثلاث في الدول العصرية، التشريعية و التنفيذية والقضائية، وتتميز بالقواعد أو الأسس التالية:
* التخصص، كل هيئة مختصة بجانب من جوانب حياة المزابي، الاجتماعي والديني والدفاعي والقضائي.
* وجود نظام داخلي معروف (السَيرَاتْ) لكل هيئة، يحدد المهام والصلاحيات، شروط العضوية وتقلد المسؤولية.
* الاستقلالية التامة، لكل مجلس صلاحياته وليس هناك تداخل في الصلاحيات و يمنع منعا باتا لشخص واحد الجمع بين المسؤولية في مجلسين مختلفين.
* الشورى والإجماع كقاعدة لاتخاذ القرارات.
* الإقصاء من المسؤولية كعقاب رادع لكل من خالف هذه القواعد.
بمرور الزمن صارت هذه المجالس قمة في الفعالية وتنظيما فريدا من نوعه وسابقة لمثيلاتها في العصور الحديثة بقرون، فبفضل احترام وتطبيق النظم الداخلية لهذه المجالس، ضمن وكرس المجتمع المزابي التداول الطبيعي على سلطة التسيير وقطع الطريق أمام التسلط والحكم الفردي وتداخل الصلاحيات وتراكمها وكذلك التدخل الخارجي مهما كان مصدره وحتى من المدن الآخرى فيما بينها!!
وبوجود رجال أكفاء على رأس الهيئات العرفية يخططون ويرعون مصالح المجتمع ويقدمون المصلحة العامة على المصلحة الخاصة حضيت هذه الهيئات بالولاء التام و بالاحترام إلى درجة القدسية من كل المزابيين.
مرحلة الاستعمار الفرنسي
بوصول المحتل الفرنسي إلى تخوم الصحراء الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر دخلت المدن المزابية تحت سيطرة قوة مركزية مسيطرة لأول مرة ولكن بعد مفاوضات شاقة مع المحتل الفرنسي وبصعوبة ودهاء كبيرين استطاع المزابيون التأقلم مع الوضع الجديد وحافظوا على قدر كبير من الاستقلالية خاصة في الميدان الاجتماعي الاقتصادي الديني والقضائي وبالتالي ضمنوا استمرارية مجتمعهم ونمط عيشهم.

مرحلة مابعد الاستقلال المجهض
ولكن بعد سنة 1962 والاستقلال المجهض مباشرة من طرف جماعة وجدة التي استولت على الحكم وأسست نظاما شموليا قمعيا عانى منه كل الجزائريين بصفة عامة والمزابيين بصفة خاصة، وقد عملت السلطة الجديدة على تكريس الأحادية السياسية (الحزب الواحد) والثقافية واللغوية ومحاربة كل ما يشذ عن تلك القاعدة فعملت جاهدة على إلغاء التنوع و الاختلاف الثقافي واللغوي والمذهبي في مختلف أنحاء الجزائر تحت مبرر مخادع ومضلل وهو الحفاظ على الوحدة الوطنية وعدم فتح الباب للتدخل الأجنبي !!
ونتيجة لهذه التصرفات الشاذة والغير طبيعية لسلطة فاسدة جاهلة و مستبدة، عانى المجتمع المزابي منذ الاستقلال إلى يومنا هذا حرب شرسة غير معلنة وبدون هوادة على كل ما يرمز لخصوصياته الثقافية وتعمدت السلطة التعتيم والتجهيل بأسس ومقومات الشخصية المزابية خاصة العقيدة الاباضية وفقه السياسة في المذهب الاباضي !!
ولكي تضمن السلطة نجاح مهمتها القذرة، عملت بكل دهاء وخبث وبكل الوسائل الممكنة وهذا بعد دراسة عميقة لتركيبة المجتمع المزابي الذي كما ذكر اعلاه يكن ولاء واحتراما شديدين للمجالس العرفية، عملت السلطة على اختراق هذه المجالس من الداخل وهذا بانتهاج سياسة التخويف والتهديد الشخصي ضد المسؤولين في تلك المجالس تارة و بالتهديد بتأميم وغلق المدارس والمساجد الاباضية في الستينات والسبعينات تارة أخرى وبعدها بالتهديد بالمساس بالمصالح الاقتصادية للقائمين على المجالس العرفية أو تهديدهم بإيداع ملفات ضدهم لدى مصالح المخابرات !! أو بالمتابعات القضائية ضدهم وأخطرها هو التلويح بإشعال الفتنة الطائفية مع العرب المالكيين وهذا بعد أن ذاقوا ويلاتها عدة مرات بعد الاستقلال، مع ما ينجر عنها من سقوط للضحايا وحرق وإتلاف للاملاك والمحلات وآخرها أحداث بريان الدامية !؟.
ونتيجة لهذه الممارسات المنهجية والمستمرة لمدة عقود من الزمن من طرف السلطة التي أدت إلى زرع هاجس الخوف(psychose de la peur) في المجتمع المزابي عامة وفي مسئوليه خاصة، ثم استثمرته بشدة وبكل خبث تحول على إثرها المسؤولون على الهيئات العرفية رغما عنهم أو برضائهم إلى أبواق للسلطة داخل المجتمع المزابي، شغلهم الشاغل هو إرضاء كل أوامر السلطة وتمرير خطاباتها ومارس نفس المسؤولين الرقابة الذاتية على بني جلدتهم فصار لا يتقلد منصبا في تلك المجالس أو يرشح للمجالس الرسمية المنتخبة إلا من ترضى السلطة عن ولائه التام لها أو على الأقل يتأكدوا من ضعف شخصيته فلا يعارض أبدا ويتقبل كل شيء !!
وهكذا تم دوس وخرق كل أسس وقواعد المجالس العرفية وضرب بها عرض الحائط وخاصة التخصص، الاستقلالية الشورى والإجماع، فصارت جسدا بلا روح وأفرغت من مهامها الأساسية.
ولكي تتم الخطة الخبيثة دعمت السلطة بكل الطرق نشاط و انتشار التيارات الدينية المتطرفة من جهة وشجعت على استهلاك الكحول والترويج للمخدرات بين أوساط الشباب المزابي من جهة أخرى في سكوت مطبق متواطئ من المسؤولين على المجالس العرفية !؟
المعادلة الصعبة والكابوس المرعب !!
وبمرور الوقت تكونت معادلة صعبة الحل وبمثابة متاهة حقيقية بدون مخرج بالنسبة للمجتمع المزابي نظرا ل:
1 وجود رصيد تاريخي هائل من الاحترام إلى درجة القدسية للهيئات العرفية في الذاكرة الجماعية للمزابيين تولد عنه ثقة وطاعة عمياء للقرارات واللأوامر الصادرة منها.
2 تحول أغلبية المسؤولون على المجالس العرفية الحاليين من حماة لخصوصيات المجتمع المزابي من الذوبان والانقراض إلى أدوات طيعة بيد السلطة الفاسدة، بسبب سيطرة هاجس الخوف عليهم أو بكل بساطة لحماية مصالحهم الخاصة، ولإظهار مدى ولائهم للسلطة صاروا يتكفلون بإسكات ومحاربة كل صوت يرتفع رافضا الرضوخ لهذه الجريمة وللأمر الواقع المفروض !!
3 تكريس الخلط المقصود بين المفاهيم لحماية مزابيي السلطة من المحاسبة، ، فكل من تقلد أو قلد منصبا ما في هيئة عرفية ما يتحول بقدرة قادر إلى تجسيد(une incarnation ) للهيئة للعرفية فلا يجب انتقاده ولا محاسبته مهما فعل!!
ونظرا لهذا كله فإن المزابي العادي الذي تعلم وتربى عبر أجيال وأجيال!! أن يحترم الهيئات العرفية وينفذ قراراتها بعفوية ودون خلفية صار بين عدة خيارات أحلاها مر:
فإما أن يطيع أية أوامر صادرة من أي هيئة عرفية و بطريقة أوتوماتيكية ودون تفكير! ويكون في هذه الحال ينفذ عن قصد أو غير قصد مخططات وأوامر السلطة الجزائرية الفاسدة التي لا ترمي في نهاية الأمر إلا إلى القضاء على المجتمع المزابي و إلغائه من الوجود؟؟
وإما أن يكفر بهذا المجتمع وبتنظيماته المخترقة والتي صارت جسدا بلا روح ويفقد معالمه كلها، فيذوب في الأغلبية أو يبحث حانقا أو يائسا عن البديل، فإما أن يلجأ منتقما للتيارات الدينية المتطرفة التي لا تعترف بالمذهب الاباضي وحتى تكفر أتباعه وإما أن ينزلق إلى الرذيلة والمخدرات والكحول !!
وإما أن يرفض هذا الوضع الشاذ والأمر الواقع ويطالب بتصحيح الوضع والعودة إلى احترام اسس وقواعد المجالس العرفية "السيرات" سر نجاحها وفعاليتها فيتكالب عليه "مزابيو السلطة" ((Les Mozabites de service ويلصقون به التهم الجاهزة، الفتنة و تهديد مصالح المجتمع والخروج عن الطاعة وعدم الاعتراف بالمجالس العرفية، فيعيش في صراع مفتوح ونقاش عقيم مع أبناء مجتمعه الذين أجهلوا عن قصد حضارة أجدادهم وتاريخهم الناصع وأصابهم هاجس الخوف المغروس فيهم لعقود من الزمن بالشلل الفكري، أدى بهم إلى حد القبول بالتنازل عن حقهم في المواطنة، حيث صار البعض يردد بافتخار مقولة تجسد القبول بمرتبة المواطن من الدرجة الثانية "نحن لا نحتاج لأي شيء يأتي من الدولة المهم أننا نعيش في أمان"!!
هل مازال هناك أمل ؟؟
بعد هذا كله هل يمكن أن يبقى للمزابيين وجود و كم من الوقت سيستطيعون أن يصمدوا و يحافظوا على خصوصياتهم وتراث أجدادهم الأصيل في ظل تكالب السلطة وإصرارها في المضي قدما في تنفيذ مخططاتها المذكورة أعلاه من جهة ومن جهة أخرى تغييب الوعي بالخطر المحدق عن غالبية المزابيين و السكوت المطبق من طرف المسؤولين على المجالس العرفية ورضوخهم المذل وقبولهم دون احتجاج لسياسة الأمر الواقع؟؟
هل يعقل ونحن نعيش عصر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان أن يبقى الجميع ساكتين مكتوفي الأيدي تحت مختلف التبريرات يتفرج على سلطة فاسدة وهي تنفذ هذه الجريمة بطرق ملتوية وخبيثة في حق من بقي يحتضن حضارة عالمية ضاربة جذورها في أعماق التاريخ، برهنوا على مدى الزمن تقديسهم للعمل الجاد واحترام الفكر واستعمال العقل وإيمانهم بضرورة انتهاج السلم والتسامح وتقبل الاخرين في اختلافهم حتى في أوج قوتهم؟؟



فخار كمال الدين
مناضل من أجل الديمقراطية وناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)