الجزائر - A la une


الغفلة عن الآخرة
يقول ابن عطاء الله السكندري: ”لو أشرق لك نور اليقين، لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفناء عليها”ما الذي يحجب الإنسان عن رؤية أحداث الآخرة، التي يصفها بيان الله تعالى، ويؤكد وقوعها بأساليب متنوعة، ويبرزها أمام أبصارنا، وكأنها مشاهد تجري أمام أعيننا اليوم؟إن الذي يحجب تلك الأحداث عن أبصارنا حجاب المشاهد الدنيوية القائمة أمامنا، والتي تستهوي النفس فينشغل الفكر بها، إذ تنصرف إليها الرغبة، وتهتاج عوامل الخوف من تعثر السبل إليها وعدم التمتع بها..وصدق الله القائل: ”إنّا جَعلْنا علَى الأرضِ زينَةً لها لنبْلُوَهُم أيُّهُم أَحسَنُ عَمَلاً”(الكهف)فتتكاثف من ذلك الحواجز النفسية والفكرية التي من شأنها أن تسدل ستاراً يحجب أحداث الحياة الآخرة عن الذهن وعن البصيرة..بحيث ينصرف أحدنا بشكل كلي إلى الاهتمام بمعايشه الدنيوية، ناسياً أو متناسياً ما هو مقبل إليه عما قريب من أحداث مرحلة الحياة الثانية..فما الذي يحطم هذا السور أو يزيح هذا الحجاب القائم بيننا و بين ما نحن مقبلون عليه من أحداث الحياة الآخرة؟أما الأمل في أن يَنْدَك هذا السور الدنيوي أو في أن ترفع أبصارنا زينة هذا الحجاب فهو وهم باطل وأمنية تستعصي على التنفيذ، ذلك لأن سنة الله ماضية في أن يبتلي عباده بزينة الحياة الدنيا، وفي أن يضعها شاغلاً لهم على طريق رحلتهم في فجاج هذه الحياة(من وجهة ما)..أليس هو القائل: ”وزُيِّن للنَّاس حبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّسَاءِ والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفضَّةِ والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأَنعامِ والحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَياةِ الدُّنيا واللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المآبِ”(آل عمران).ولكن ثمة سبيل آخر، يقضي على كثافة هذا السور أو الحجاب الدنيوي، وإذا هو كالزجاج الصافي النظيف الشفاف، يشعرك بوجوده ولكنه لا يبصرك إلا بما وراءه..إنه السبيل الذي ينمي نور اليقين بما قد أنبأك الله به من الدار الآخرة وأحداثها.ولعلك تلاحظ أنني أحدثك عن السببيل الذي ينمي نور اليقين لا سبيل اليقين ذاته..ذلك لأن اليقين باليوم الآخر وأحداثه، هو الجامع المشترك بين المسلمين الصادقين في إسلامهم على تفاوت درجاتهم، فمن تدانى عنده اليقين به إلى درجة الظن، ولو كان قوياً، فقد خرج بذلك عن ربقة الإيمان.ولكن المسلمين يتفاوتون بعد ذلك في النور الذي يتمتع به يقينهم هذا..فما هو أثر هذا النور في اليقين الذي يجب أن يتمتع به كل مسلم؟وما هو السبيل إلى الحصول عليه؟أما أثره فهو أنه يجعل اليقين بما سيجري في المستقبل مما أخبر الله عنه، في حكم الواقع و الماثل للعيان حالاً.وأما السبيل إليه فهو الإكثار من ذكر الله تعالى ودوام مراقبته، وقد مرّ بك الحديث عن أهمية ذكر الله تعالى وعن أثره في تحرير القلب من الغفلة عن الله تعالى..وصفوة القول أن الدنيا بكل ما فيها من محاسن ومغريات، إما أن تكون حجاباً تبعد المقبل إليها عن الآخرة وأحداثها وتصرفه عن تذكرها والاستعداد لها، وإما أن تكون منبهاً إليها مذكراً بها..فهي ذات أثرين متناقضين يتفرقان حسب حال المقبل إليها والمتعامل معها.فمن أقبل إليها وتعامل معها غافلا عن الله معرضاً عن تعريفه لها وحديثه عنها، حُجِبَ بها، وحُبست بصيرته في أقطارها، فلم يعد يقيم وزناً لشيء مما هو مقبل عليه.ومن أقبل إليها وتعامل معها ذاكراً الله دائماً، متأملاً في تعريفه لها، وحديثه جل جلاله عنها، وتنبيهه إلى الأيام الثقيلة الوافدة إليه من ورائها، رآها كالدهليز الذي يدخل منه الوافد إلى الدار، لا يحفل به إلا من خلال أنه طريق ينتهي به إلى مستقره القاصد إليه..بقي أن تعلم-أخي القارئ- أن الدنيا وقد أصبحت مرآة للآخرة، أمام من قد وصفته لك من حسن حاله مع الله ، لابدّ إن أمعن النظر إليها أن يجد نذير الفناء ملازماً لها واضحاً عليها، إذ لا يبقى شيء من أَلَقِها أو نعيمها على حاله قطّ.فهي إلى السراب الوهمي أقرب منها إلى الشراب الحقيقي.وصد الله القائل: ”اعلَمُوا أنَّما الحَياةُ الدُّنيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِينَةٌ وِتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وتَكَاثُرٌ فِيْ الأموالِ والأولادِ كَمثلِ غيثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراُه مُصفَراً ثمَّ يكُونُ حُطاماً وفِي الآخرةِ عذابٌ شَديدٌ ومغْفِرِةٌ مِنَ اللهِ ورضوانٌ ومَا الحَياةُ الدُّنيا إلاّ متاعُ الغُرُورِ”(الحديد).المرحوم الدكتور سعيد رمضان البوطي بتصرف




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)