الجزائر - A la une


عندما تغرق الجزائر العاصمة بساكنتها وحديدها وصلبها، مع زخات مطر عابرة، وتتوجّع قسنطينة من ألم أكوام القاذورات والقصدير التي عيّشت سكانها مع مخلوقات جديدة من الحشرات والجرذان، وتتضرع وهران وعنابة إلى خالقهما لإنقاذهما من عصابات الإجرام التي صارت تبيع الحشيش والعملة المزورة وحتى البشر، وتعطش سطيف ولا تكاد تشرب ساعة زمن من الماء، خلال أسبوع كامل، ولا يمكن لسياح الشواطئ الممتدة على مسافة ألف كيلومتر من السباحة من دون أطنان من القمامة والكلاب المتشردة، فهذا يعني أننا فعلا أمام بلد ظل بالكامل، وهو في حاجة إلى شمس ساطعة وأنوار تضيء هذا الظلام الدامس الذي يخيّم على البلاد منذ عقود.في غياب المخططات المدروسة والمشاريع البعيدة المدى، والغرق في الإنجازات الاستعراضية، التي جعلتنا نسيل في كل محاولة اللعاب، أكثر من العرق، فجاء الغرق الذي حدث في العاصمة وفي غيرها من المدن بحجم تيارات اللعاب، فطالت أيادي المسؤولين المدن، فحوّلتها إلى أرياف، وطالت الأرياف فحاولت أن تمدّنها، فتغيرت طباع أهل المدينة فمارسوا التريّف، وحاول أهل القرى أن يتمدنوا فتاهوا عن طبيعتهم، وفي كل مرة يتم التركيز على الأظرفة المالية المنتفخة من أجل ممارسة إعطاء الأفكار والمشاريع لغير أهلها فكانت النتيجة أن فقدت الجزائر أريافها الخضراء، من دون أن تحقق التمدّن المطلوب، الذي يشاهده الجزائري في مدن عصرية جديدة في شرق وغرب آسيا وحتى في شمال القارة الإفريقية ويفتقده في التجمعات السكنية الجديدة أو ما يسمى عندنا بهتانا "المدنُ الجديدة".
ليس من الإنصاف أن نبحث في كل مشكلة تقع فيها البلاد في أي مجال كان عن متهم واحد، نرميه بالفساد، وننفض أيدينا، فما حدث في العاصمة من عبث هو مسؤولية الجميع بالتواتر والتوريث. وإذا كانت عاصمتنا قد احتلت في كل التصنيفات العالمية مراتب الذيل ضمن المدن الأكثر بؤسا، فهذا يبصم على أنها هي نفسها منطقة ظل، وتحتاج إلى ثورة كبيرة تعيدها إلى رشدها الضائع بين مواطنين فقدوا مدنيتهم فيها، وآخرون لم يستطيعوا التخلي عن قرويتهم فيها، وبين هذا وذاك تمكّن منها بعضُ المسؤولين الذين اكتفوا بمساحيق التجميل، من دون عمل جراحي دقيق، لا يمكن أن يتقنه إلا أهل الاختصاص.
منذ أن تم تعيين الولاة الجدد، في مناصبهم وهم يبحثون عن جرد مناطق الظل لمباشرة ترميم ما أفسده الدهر فيها، ونخشى أن تتكرر أخطاء الماضي عندما حاول هواري بومدين أن يصلح الفلاحة بالقرى الاشتراكية، فحوّلنا إلى مستوردين للبيض من رومانيا والدجاج من تشيكوسلوفاكيا والطماطم من بلغاريا، وحاول عبد العزيز بوتفليقة أن يبني مائة محل تجاري في كل بلدية لتشغيل شباب الظل، فتحوَّل أكثرُها إلى أوكار لتعاطي الحشيش بكل أنواعه.
دعونا نعترف أوَّلا بأن بلادنا للأسف بفعل عقود الفساد قد تحوّلت كلها إلى منطقة ظل، وبأن عقول الكثير منا قد خيّم عليها الظلام، وسيكون الاعتراف هو الدافع لأجل ثورة حقيقية تبزغ فيها شمس الجزائر الجديدة، التي لا ظلام في قراها ولا في مدنها.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)