الجزائر - 05- La période Ottomane

الجزائر العثمانية سيّدة البحر المتوسط



الجزائر العثمانية سيّدة البحر المتوسط
مرّت الجزائر قبل الوجود العثماني بوضعيةٍ حرجة، مزّقت كيانها السّياسي الموحّد، فقد كانت آخرُ دولةٍ جزائرية هي الدولة الزّيانية وعاصمتها: تلمسان، وكان موقعها الجغرافي حرجًا جدًّا، يتأرجح بين كيانيْن متنافسيْن ومتحاربيْن عليها، وهما: الدولة الحفصية بتونس والدولة المرينية بالمغرب، وكان التنافسُ على العرش بين أفراد العائلة الزّيانية السّبب المباشِر في سقوطها، أمّا باقي القُطر الجزائري فقد كان عبارةً عن إماراتٍ صغيرة ودويلاتٍ متفرّقة، لا تفصل بينها حدودٌ قارّة ولا تربط بينها وَحدة نظامية، وكان لانتشار الطرق الصّوفية -كسلطةٍ روحيةٍ- دورٌ رئيسيٌّ في ذلك الحكم المستقل لها، كما تعرّض المرسى الكبير سنة 1505م ومدينتا وهران وأرزيو سنة 1509م للاحتلال الإسباني، وامتدّ الاحتلال الصّليبي إلى دلّس وشرشال وتنّس ومستغانم وبجاية سنة 1510م، وتمّ تسليم مدينة الجزائر للإسبان من قِبل حاكمها المستبد سالم التومي، ولم تكن هناك سلطة سياسية مركزية تجمع المغرب الأوسط (الجزائر حاليًّا).

ولقد كان للعثمانيين فضلٌ في بعث الدولة الجزائرية، بعد سقوط الدولة الزيانية، يقول الدكتور أرزقي فرّاد في مقالٍ له في “الشّروق” بتاريخ 03 مارس 2018م: “وهكذا، فإنّ الفضل يعود إلى العثمانيين في تأسيس دولة مركزية قويّة في العصر الحديث باسم الدولة الجزائرية، فرَضَت هيبتها على الأوروبيين عن طريق سيطرتها على الحوض الغربي للبحر المتوسط، في إطار الغزو البحري الذي يُعدّ امتدادًا للحروب الصّليبية، وليس قرصنة كما يدّعي الغرب”. وبالرّغم من الارتباط الرّوحي بين الجزائر والخلافة العثمانية بتلك الرّابطة الدينية، إلاّ أنها كانت تتمتع بنوعٍ من مظاهر السّيادة والاستقلالية، يقول مولود قاسم نايت بلقاسم في كتابه (شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل 1830م، ج 2، ص 80): (تميّزت العلاقات بين الجزائر والخلافة العثمانية بطابعين اثنين..)، ثمّ يقول: (والطّابع الثاني هو استقلال الجزائر استقلالاً تامًّا وسيادتُها سيادةً كاملة، ومن هنا نرى الجمهورية الجزائرية، وهذا كان اسمها الرّسمي في غالب نصوص المعاهدات وفي المراسلات التي كانت بينها وبين الدول الأخرى..)، وخاصّة في عهد الدايات ابتداءً من 1671م إلى 1830م.

كلُّ ذلك يدلّ على صفة الزّعامة التي كانت تتميز بها الجزائرُ العثمانية، واستقلالية قرارها خاصّة في السّياسة الخارجية وفي علاقاتها بغيرها، وأنه لم يكن مرهونًا برأي الخلافة العثمانية، مع انتزاع الاعتراف الدولي والأوروبي بسيَّادتها وخصوصية مصالحها، والتنافس في ربط العلاقات الدولية معها، وفتح القنصليات والتمثيليات الديبلوماسية بها، بعدما أرعبتهم قوّتُها البحرية في مواجهة حملاتهم الصّليبية وتهديد مصالحهم الاقتصادية والتجارية، بل وإخضاعها لتقديم الهدايا ودفع الضّرائب السنوية إليها، وإعلان الحرب على مَن يتأخر منها، بل واستبقت القانون البحري الدولي الحديث بإخضاع السّفن البحرية الصديقة أو العدوة إلى التفتيش لمعرفة هويتها وهوية حمولاتها، وكان للموقع الجغرافي الاستراتيجي للجزائر دورٌ رئيسيٌّ في هذه القوّة التي واجهت بها هذه الأخطار الدولية: سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، ممّا أهّلها إلى أن تكون سيّدةً للبحر الأبيض المتوسط بامتياز.

يقول المؤرّخ الفرنسي “دى غرامون”، وهو يتحدّث عن الجزائر وقوّتها خلال العهد العثماني، بذلك الإشعاع العالمي وشخصيتها البارزة ووجودها الكوني وهيبتها الدولية: “لقد ظلّت الجزائر طيلة ثلاثة قرون (فترة الوجود العثماني) رُعب النّصرانية وكارثتَها، ولم تنجُ واحدةٌ من المجموعات الأوروبية من البحّارة الجزائريين الجريئين، بل وأخضعت الجزائر زيادة على ذلك لمهانة الضّريبة السّنوية: ثلاثة أرباع أوروبا، بل وحتى الولايات المتّحدة الأمريكية”، وقد بلغت الجزائر من القوّة العسكرية -وتحديدًا القوّة البحرية- ما جعل المؤرّخ الإسباني “دييغو دي هايدو” يصرخ في وجه أوروبا قائلاً: (الجزائر آفة الدّنيا ومضجعُ القراصنة، إلى متى يتحمّل ملوك أوروبا ذلّه؟).

وبالرّغم من حجم المؤامرات والخيانات والصّراعات والحملات الصّليبية ضدّ الجزائر العثمانية إلاّ أنّ أغلب هذه الدول كانت تسارع إلى تطبيع العلاقات وعقد المعاهدات معها، فالعلاقة مع إيطاليا كُلّلت بمعاهدة الهدنة مع البندقية سنة 1763م ومعاهدة السّلم مع صقلية سنة 1814م، والبرتغال المتماهي مع المدّ الصليبي ضدّ الجزائر انتهى إلى التوقيع على 04 معاهدات سلمٍ سنوات 1785م و1793م و1795م و1813م. والعلاقة مع روسيا التي رفضت الجزائر عقد معاهدات معها، إذ كانت في حالة حرب ضدّها تضامنا مع الخلافة العثمانية سنة 1787م، ولانضمام روسيا للحلف السّباعي ضدّ الجزائر سنة 1814م.

والعلاقة مع الدانمارك التي عقدت مع الجزائر معاهدة سلمٍ وتجارة سنة 1746م، ولمّا زادت الجزائر في الإتاوات السنوية التي تدفعها هذه الدول الأوروبية رفضت الدانمارك ذلك وأرسلت حملات عسكرية بحرية سنتي 1770 و1771م باءت كلّها بالهزيمة، ممّا اضطرها إلى الانضمام إلى ذلك الحلف السّباعي ضدّ الجزائر سنة 1814م. والعلاقة مع السويد التي ترسّمت معاهدات السّلم المتأخرة معها سنة 1729م والمعاهدة الثانية سنة 1792م.

والعلاقة مع هولاندا التي شنّت غارات بحرية على الجزائر سنتي 1622م و1660م وباءت كلّها بالفشل ممّا اضطرها إلى عقد 11 معاهدة سلمٍ واتفاقية تجارة.

والعلاقة التاريخية المتوترة جدًّا مع إسبانيا طيلة 03 قرون إلى غاية 1784م، وقد اضطرّ ملك إسبانيا إلى عقد معاهدة والقبول بكلّ الشروط سنة 1786م، ومعاهدة السّلم والصداقة التي انتهت بالجلاء الإسباني من وهران والمرسى الكبير سنة 1792م مع دفع الضّريبة السّنوية للجزائر وتسليم الهدايا والأسلحة والسّفن والعتاد البحري.

والعلاقة مع بريطانيا التي عقدت مع الجزائر 27 اتفاقية ومعاهدة صداقة وسلم وتجارة، إلاّ أنها لم تشذّ عن الحقد الصّليبي بالقيام بحوالي 10 غارات منذ 1620م باءت كذلك بالفشل، ممّا اضطرّها لعقد تحالفٍ عسكري بحري سنة 1812م ضدّ نابليون.

والعلاقة مع أمريكا التي بدأت باعتراف الجزائر باستقلالها سنة 1776م، وكانت أول معاهدة صداقةٍ وسلمٍ بين البلدين سنة 1795م، واستمرت أمريكا تدفع الضّريبة للجزائر حسب ما تمّ الاتفاق عليه إلى غاية 1812م، وبعدها انضمت أمريكا إلى الحلف الدولي السّباعي ضدّ الجزائر سنة 1814م.

والعلاقة مع فرنسا التي وقّعت مع الجزائر 58 معاهدة واتفاقية بين 1619م و1830م، وتولّى رعاية مصالحها 60 قنصلاً، وتردّد عليها 96 محافظًا، وذلك للحفاظ على مصالحها التجارية وامتيازاتها في البحر الأبيض المتوسط.

بل أرسل الملك الفرنسي لويس السادس عشر بعد سنة 1775م ببضع سنين برسالة إلى الداي محمد عثمان يصف فيها الجزائر بالإمبراطورية في ذلك الوقت، ويقترح عليه فيها تعديل بعض بنود معاهدات سابقة: “لزيادة تعزيز العلاقات بين الإمبراطوريتين..”.

ويقول الدكتور مولود قاسم نايت بلقاسم في كتابه: شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل 1830م، ج1، ص 66 عن حجم التآمر الدولي على الجزائر العثمانية سيّدة البحر الأبيض المتوسط: (ومن هنا نرى الكتّاب الأوروبيين والأمريكان حانقين ناقمين على الدولة الجزائرية التي قهرت الأمريكان مدّة نصف قرن، أي منذ استقلالها عن بريطانيا سنة 1776م حتى الغزو الفرنسي للجزائر، كما قهرت أوروبا طيلة ثلاثة قرون كاملة، وردّت حملاتِها وغاراتها، بل وغزَتها في عُقْر دارها وحطّمت شوكتها وفرَضَت عليها الضّرائب، بعد أن حرَمتها من تحقيق حلمها في أخذ الثأر من انتصار صلاح الدّين الأيوبي عليها في القدس الشّريف وحطّين).

هذه القوّة الدولية والهيْبة العالمية للجزائر جعلت فرنسا تبادر في مؤتمر (فيينا) سنة 1814م إلى طرح موضوع الجزائر، فاتفق المؤتمرون على تحطيم هذه الدولة في مؤتمر (إكس لاشابيل) عام 1819م، إذ وافقت 30 دولة أوروبية على الفكرة، وأُسنِدت المهمّة إلى فرنسا وانكلترا للقيام بذلك.

لولا تلك القوّة والسّيادة والعظمة التي تمتعت بها الجزائر العثمانية لما تحالفت عليها كلّ هذه القوى الدولية الصّليبية لتحطيمها.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)