الجزائر

الابداع بين التعميم والنقد التاريخي والمنطقي




الابداع بين التعميم والنقد التاريخي والمنطقي
اختلف الفلاسفة الأقدمون في تبني نظرية محددة متفق عليها حول الثقافة، وهذا الاختلاف، هو سبب جوهري لمعرفة التسلسل الطبيعي والتطور البشري عبر العصور.الاختلاف حول المفهوم الثقافي في علاقته بالإنسان، تأرجح بين مستويات عدة، لعل أبرزها ما ذهب نحو الحفر الأيكولوجي، الذي أيد بقوة علاقة الثقافة بالحتمية الجغرافية، فيما ذهب آخرون لتبني الخصوصية التاريخية في تفسير الثقافة.كان أنصار التيار الأول، وهم من الفلاسفة الأغريق، بحسب ما ورد في مجلد «ملحمة التطور البشري» لسعد عبدالله الصويان والصادر عن دار مدارك للنشر وجلهم من الأغريق، يعتقدون بأن المناخ هو الذي يحدد مزاج الإنسان وشخصيته الثقافية، ونظمه الاجتماعية وعلى رأس هؤلاء الفيلسوف هيبكراتس، الذي رأى أن جسم الإنسان هو مزيج من أربعة أخلاط هي (الدم والبلغم والصفراء والسوداء) وأن اختلاف أمزجة الإنسان النفسية والبدنية راجع لاختلاف نسب هذه الأخلاط، كما أن المناخ وهذا – مربط الفرس – هو الذي يحدد نسب هذه الأخلاط وتوازنها في الجسم.والحقيقة أن مثل هذا التفسير، قد يلبي طموح بعض الدارسين، الذين يعولون على البيئة بوصفها عاملاً رئيسياً في رسم ملامح ثقافية خاصة، ومن ذلك مثلاً دراسة أثر البيئة في الشعر العربي القديم، ومنه على وجه الخصوص الشعر الجاهلي، الذي لم يصلنا منه سوى النزر القليل، وهو الذي عرف بالمعلقات.مثل هذا التحيز للبيئة أو الجغرافيا في تفسير المعطى الثقافي، كان ينطوي على ثقة مبالغ فيها عند الفلاسفة اليونانيون أنفسهم، ومنهم أفلاطون وأرسطو اللذان كانا «يريان أن بلاد الإغريق بمناخها المعتدل، هي المكان الأنسب لظهور الحكم الديمقراطي، وأن أهلها هم الأقدر والأجدر بأن يحكموا غيرهم من الأمم، لأن المناخ المعتدل هذا، ينتج عنه توازن في أخلاط الجسم الأربعة ما يساعد على الصحة البدنية والنفسية».ذهب أرسطو وأفلاطون إلى أبعد من ذلك، وهم يقارنون مناخ بلادهم بمناخ البلاد الحارة والباردة، حين وصفوا أهل المناطق الحارة، بأنهم ميالون إلى الاسترخاء والاستسلام والتطرف الشديد والمبالغة في التعبير عن المشاعر، في حين اتصف أهل المناطق الباردة بحسب تفسيرهم بالبلادة والبلاهة والأنانية.ومثل هذا التعميم، لا يبدو منطقياً في صورة الأدب المعاصر، ولا هو منطقي كذلك في سياق التطور الطبيعي لنظرية النقد، مع كامل التقدير لما قدمه اليونانيون من فلسفة وأدب على نحو ما جاء في أساطيرهم التي تتجسد على شاكلة بشر، لقد انساقوا إلى نزعة التفوق اليوناني، كأخلافهم الرومانيين حين انتقل مركز القوة من أثينا إلى روما.في الحديث عن المناطق الباردة والكسل، ماذا يمكن أن نقول عن الأداب والمؤلفات العظيمة التي برزت في روسيا الشهيرة بصقيعها، وماذا يمكن أن نعدد من أسماء الكتاب الكبار أمثال: بوريس باسترناك، صاحب الرواية الملحمية «دكتور زيفاجو»، ماذا عن ليونيد ليونوف وألكسي تولستوي؟.. وماذا عن ليرمنتوف شاعراً وروائياً، وهو صاحب «قصة بطل من عصرنا» التي تعتبر أول رواية نفسية في الأدب الروسي؟ بل ماذا عن جوجول أحد أشهر الأدباء الروس، و«قصة المفتش العام»؟، وإيفان تورجنيف كروائي ومؤلف مسرحيات، وماذا عن مرحلة الأدب الواقعي وليو تولستوي، وهو أكبر كاتب وروائي في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر، وأعماله العظيمة «الحرب والسلام» و«أنا كارنينا» وروايته «موت إيفان إيليتش»؟ هل نعدد فنذكر: دوستويفسكي ورواياته الدراماتيكية التي تصور الصراعات الداخلية للإنسان، من خلال «الجريمة والعقاب».. و«الإخوة كارامازوف»؟ بل ماذا عن أنطون تشيخوف، وروايات ومسرحيات وقصص مكسيم جوركي، وغيرهم الكثير.في الحديث عن تأثير البيئة في الثقافة، وإذا ما تحدثنا عن الشعر الجاهلي الذي أنتجته مجموعات من البدو، فلا يجب أن نتصور هذه المجموعات معزولة عن بقية العالم، بحسب ما يؤكد الباحث سلام الكندي، فمن الشمال، كان ثمة حضارة الأنباط، الذين تأثروا بشكل كبير بالحضارة الهلينية، كما يتضح من آثار مملكة «بيترا» التي كانت لزمن طويل محطة تجارية بين اليمن والبحر الأبيض المتوسط، والذين كانوا يتحدثون الآرامية، ومن كتاباتهم اشتقت الكتابة العربية، وبواسطتهم كان يمر أي نوع من أنواع التأثير القادم من وادي النمر والفرات، ومن خلالهم عرفت التقاليد الكلدانية والبابلية، ومن الجنوب كذلك حيث الحضارة اليمنية التي يعود تاريخها لألف عام قبل الميلاد.الشعر الجاهلي بحسب الكندي لم يستوف حقه من النقد، لا سيما أن ما وصلنا منه لا يعدو كونه نزراً يسيراً، توفر فقط من خلال الرواية الشفوية، تم الحصول عليها عن طريق تدويناتها المكتوبة، فقام سلام ببحثه استجابة للمنطق التاريخي، وتحليله في ضوء دراسة مفاهيمية تظهر ما في هذا الشعر من منطق وفلسفة وأبعاد قابلة للتأويل.في موضوع تبني الخصوصية التاريخية في تفسير الثقافة، يرد اسم الفيلسوف الأمريكي فرانتز بواز (1858 – 1942) الذي عارض المفهوم السابق الذي يعطي دوراً حاسماً للبيئة في تشكيل الثقافة وتطورها، ناقضاً إياه كونه يهمل دور الاستعارة، كما يهمل دور الخصوصية التاريخية لكل ثقافة.نادى بواز بالابتعاد عن التعميمات وتبني النهج الاستقرائي ودراسة كل ثقافة على حدة دراسة تفصيلية متعمقة تراعي الخصوصية التاريخية وتؤكد أهمية التبادل الثقافي والتاريخي والاجتماعي في عمليات التغيير.الحديث عن تأثيرات البيئة وخصوصية التاريخ وعلاقة كل منها بالثقافة، هو حديث ذو شجون، وهو حديث عن الذات المعذبة، لكنها المطمئنة، والبعيدة عن التكبر والخيلاء، وهو حديث عن الإبداع الإنساني الذي يحاول أن يكون صادقاً مع نفسه، وما تنطق به أفكار هذا الإنسان، النائية بالضرورة عن التكبر والخيلاء، التي تبغي الوصول من خلال الرموز والاستعارات والكنايات إلى ما يشبه المثالية المطلقة، وهي كذلك تلك الإبداعات البعيدة عن الترف أو التزويق الشكلي التي تحاول في نهاية المطاف استشراف الكون ومعنى الوجود الإنساني، ومثل هذه المعاني والدلالات موجودة بكثرة في متون النصوص العربية سواء النثرية منها أو الشعرية، بمثل ما هي موجودة في النصوص القديمة منذ الحضارتين اليونانية والرومانية، كما هي موجودة بقوة في الحضارات الفرعونية والبابلية والكنعانية..حين تسلم جاو كسينغجيان جائزة نوبل في عام 2000 قال في محاضرة خاصة بهذا الحفل تحت عنوان (دفاعاً عن الأدب): «ليس الكاتب نبياً، والمهم أن يعيش الفرد في الحاضر، وأن يتوقف عن كونه مخادعاً، بمظهره الكاذب، ويتخلص من أوهامه، وينظر بوضوح إلى هذه اللحظة من الزمن، ويتفحص ذاته في الوقت نفسه، أما معرفة الإنسان لذاته فإدراكها أكثر صعوبة، والأدب إنما هو ببساطة توجيه نظرة المرء نحو ذاته، وفيما يفعل ذلك، فإن شعاعاً من الوعي الذي يلقي الضوء على هذه الذات يبدأ بالنمو». Share 0Tweet 0Share 0Share 0


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)