
عندما يُذكر الاستعمار الفرنسي للجزائر، يتبادر إلى الذهن في الغالب الغزو العسكري، والمجازر، ومصادرة الأراضي، والقمع السياسي. غير أنّ شكلاً آخر من أشكال الهيمنة، أكثر خفاءً وأعمق أثراً، مورس على المجتمع الجزائري، يتمثّل في التلاعب القسري بالأسماء. فخلف سجلات الحالة المدنية والوثائق الإدارية والخرائط الرسمية، جرت عملية منهجية لتفكيك الهوية. هذه الزاوية الجوهرية يسلّط الضوء عليها المؤرخ بنجامان كلود براور في كتابه استعمار الأسماء: العنف الرمزي والاحتلال الفرنسي للجزائر.
في الجزائر ما قبل الاستعمار، لم يكن الاسم مجرد وسيلة تعريف فردية، بل كان سيرة اجتماعية مكثفة تكشف الأصل العائلي، والانتماء القبلي، وسلسلة النسب، والمجال الجغرافي، وأحياناً المكانة الاجتماعية. كانت أنظمة التسمية العربية والأمازيغية تقوم على بنية مرنة ومتغيرة: اسم شخصي، ثم النسبة إلى الأب أو الجد، أو إلى المكان، أو إلى صفة أو لقب اشتهر به الفرد. وكان الاسم قابلاً للتبدل أو الإضافة بحسب مسار الحياة والسياق الاجتماعي.
هذا الغنى في التسمية كان يعكس مجتمعاً يقوم على الذاكرة، وروابط القرابة الموسعة، والانتماء الجماعي. فالاسم لم يكن ثابتاً، بل كياناً حياً يتطور مع صاحبه ومحيطه.
مع الاحتلال الفرنسي الذي بدأ سنة 1830، اعتُبرت هذه المنظومة غير ملائمة لمتطلبات الإدارة الاستعمارية. فالحكم، والجباية، والإحصاء، والمراقبة، تقتضي هويات ثابتة وواضحة. ولهذا فُرض نموذج أجنبي: اسم شخصي ولقب عائلي ثابتان، يُسجَّلان نهائياً وفق معايير الحالة المدنية الفرنسية.
لم يتم هذا التحول باحترام للغات المحلية أو لفهم بنياتها. فقد حُرّفت الأسماء العربية والأمازيغية عند نقلها صوتياً، وشُوّه نطقها وكتابتها، وأحياناً بُترت. وقد تحمل الأسرة الواحدة عدة صيغ مختلفة للاسم نفسه، تبعاً للإدارات أو الفترات الزمنية. كما أُلغيت أجزاء كاملة من سلسلة النسب، واختُزلت عائلات ذات جذور ممتدة في لقب جامد فاقد لدلالاته الأصلية.
يصف بنجامان كلود براور هذه العملية بأنها عنف رمزي، بالمعنى الذي صاغه بيير بورديو، أي عنف يمارس لا بالقوة المباشرة، بل بفرض أنماط تفكير وتصنيف معينة. فالإدارة الاستعمارية، من خلال فرض أسماء جديدة، لم تكتف بتنظيم المجتمع، بل أعادت تعريف الأفراد وفق منطقها الخاص.
وتكمن خطورة هذا العنف في كونه غير مرئي ومستدام. فالاسم المُستعمَر يتحول إلى إرث ينتقل عبر الأجيال، ويُرسّخ الهيمنة في الحياة اليومية، وفي الوثائق الرسمية، والمدرسة، والأرشيف، وحتى في الذاكرة العائلية.
كان لتحوير الأسماء أثر بالغ على المجتمع الجزائري. فقد أضعف الروابط العائلية الممتدة، وعقّد نقل الأنساب، وأربك آليات التضامن التقليدية. كما أدى إلى اغتراب هوياتي لدى كثير من الأفراد الذين حملوا أسماء محرّفة أو منزوعة المعنى في لغتهم الأصلية.
ولم يقتصر التأثير على الأفراد، بل مسّ مؤسسات كاملة، مثل الأسرة والبنية القبلية وأنظمة العرف المحلي. فاستبدال الهوية العلائقية بهوية إدارية جامدة ساهم في تفكيك الأسس الاجتماعية التي كانت تنظّم المجتمع الجزائري.
تكشف دراسة براور أن التحكم في الأسماء لم يكن إجراءً إدارياً ثانوياً، بل أداة مركزية من أدوات السلطة الاستعمارية. فالتسمية تعني التصنيف، والتصنيف يعني التحكم. ومن خلال إعادة تشكيل الهويات، سعت الإدارة الاستعمارية إلى جعل المجتمع الجزائري قابلاً للإدارة والمراقبة والخضوع القانوني.
وتندرج هذه السياسة ضمن منظومة أوسع شملت إعادة تسمية المدن والشوارع، وتهميش اللغات المحلية، ومحو المرجعيات الثقافية الأصلية لصالح جغرافيا وتاريخ استعماريين.
لا تزال آثار هذا الاستعمار للأسماء واضحة إلى اليوم في الجزائر، حيث تحمل كثير من الألقاب بصمات التحريفات الإدارية القديمة. إن فهم هذه الخلفية التاريخية لا يساعد فقط على قراءة الأرشيف الاستعماري، بل يفتح أيضاً باب التأمل في الكيفية التي يمكن أن تتغلغل بها الهيمنة في أدق مكونات الهوية الإنسانية.
إن كتاب استعمار الأسماء يذكّرنا بأن العنف الاستعماري لا يُمارس بالسلاح وحده، بل بالكلمات والسجلات والأسماء. فالتسمية ليست فعلاً محايداً؛ إنها فعل سلطة، وفي السياق الاستعماري، وسيلة لإخضاع الإنسان وتاريخه.
مضاف من طرف : patrimoinealgerie
صاحب المقال : Rédaction