
حمام الصالحين، المعروف سابقًا باسم أكواي فلافياناي (Aquae Flavianae) وأحيانًا بـ"النبع الساخن"، هو مجمع حراري استثنائي يقع في بلدية الحامة، على بعد حوالي 7 كم من خنشلة، عاصمة ولاية خنشلة في الجزائر. يقع هذا الموقع، الذي يزيد عمره عن 2000 عام، في منطقة جبلية وغابية في الأوراس، وهو شاهد حي على براعة الرومان ومركز سياحي وع علاجي رئيسي، يجذب ما يصل إلى 700,000 زائر سنويًا. يستعرض هذا المقال تفاصيل معمقة عن التاريخ، والهندسة المعمارية، والخصائص التقنية، والأهمية الثقافية، والجوانب الحديثة، بالإضافة إلى تفاصيل أقل شهرة عن حمام الصالحين، مع استكشاف عناصر جديدة ومحددة لتلبية طلبكم بمعلومات أكثر تفصيلًا.
السياق التاريخي المعمق
الفترة ما قبل الرومانية: الإرث النوميدي
قبل وصول الرومان، كانت منطقة الأوراس جزءًا من مملكة نوميديا، وهي دولة بربرية ذات نفوذ (202 ق.م - 46 ق.م) تحت حكم ملوك مثل ماسينيسا، ميسيبسا، ويوغرطة. من المحتمل أن تكون الينابيع الحرارية، المنتشرة بكثرة في الجزائر (أكثر من 200 ينبوع موثق)، قد استُخدمت من قبل السكان المحليين في طقوس أو لأغراض علاجية، وإن كان ذلك بدون البنية التحتية المعقدة التي طورها الرومان. كان النوميديون بارعين في إدارة الموارد الطبيعية، وربما أنشأوا أحواضًا بدائية حول ينابيع ساخنة مثل تلك الموجودة في حمام الصالحين. ومع ذلك، لا توجد أدلة أثرية محددة توثق هذه الاستخدامات ما قبل الرومانية في هذا الموقع.
مع ضم نوميديا من قبل روما عام 46 ق.م، بعد هزيمة يوبا الأول، حول الرومان هذه الموارد الطبيعية إلى مراكز حرارية متطورة، مستخدمين تقنياتهم المتقدمة في الهندسة الهيدروليكية والبناء.
الفترة الرومانية: التطوير في عهد الفلافيين
يرتبط المجمع الحراري حمام الصالحين، المسمى أكواي فلافياناي، ارتباطًا وثيقًا بالسلالة الفلافية (69-96 م)، التي ضمت الأباطرة فسباسيان (69-79)، تيتوس (79-81)، ودوميتيان (81-96). توفر النقوش الأثرية المكتشفة في الموقع أدلة دقيقة:
يشير تكريس يعود تاريخه إلى عام 76 م لفسباسيان وابنه تيتوس إلى أن المجمع قد بُني أو أُعيد بناؤه بشكل كبير في عهدهما. تتزامن هذه الفترة مع استقرار الإمبراطورية بعد عام الأباطرة الأربعة (69 م)، حيث عزز فسباسيان سلطته من خلال الاستثمار في الأقاليم، خاصة في شمال إفريقيا.
كانت الحمامات أداة للتمدين الروماني، تعزز النفوذ الثقافي والسياسي لروما في المناطق المحتلة. يعكس اختيار اسم أكواي فلافياناي التكريم للسلالة، وهي ممارسة شائعة للبنى التحتية التي تمولها أو ترعاها الأباطرة.
الإصلاحات والتطورات في عهد السيفيريين
تركت السلالة السيفيرية (193-235 م)، التي نشأت من شمال إفريقيا، بصماتها أيضًا في تاريخ الموقع:
يذكر نقش يعود إلى عام 208 م إصلاحات أُجريت في عهد سيبتيموس سيفيروس (193-211)، نفذتها وحدة عسكرية. يبرز هذا دور الجيش الروماني في صيانة البنى التحتية في الأقاليم.
في عهد إيلاجابال (218-222)، يُعتقد أن معبدًا مكرسًا للنيمفات، الآلهة المرتبطة بالمياه، قد بُني، وفقًا لبعض المصادر (ألبرتيني). يعكس هذا المعبد الأهمية الدينية للينابيع الحرارية، التي كانت تُعتبر مقدسة.
يشير تكريس لـ نومين النيمفات وللإله دراكو، يعود على الأرجح إلى النصف الثاني من القرن الثالث، إلى استمرارية الممارسات الدينية، ربما متأثرة بطقوس محلية أو شرقية.
الاستمرارية والانحدار
توثق النقوش استمرار استخدام الموقع في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، وهي فترة ازدهار لإقليم نوميديا الروماني. ومع ذلك، مع أزمة القرن الثالث (235-284)، التي اتسمت بالغزوات، والأزمات الاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي، أُهملت العديد من المواقع الرومانية في شمال إفريقيا. من المحتمل أن يكون حمام الصالحين، بفضل ينابيعه الحرارية الطبيعية، قد حافظ على نشاط معين، وإن كان محدودًا، حتى الفترة البيزنطية وما بعدها.
الهندسة المعمارية والهندسة الرومانية
هيكل المجمع
يُعد حمام الصالحين مثالًا رائعًا للهندسة المعمارية الحرارية الرومانية، مصممًا لتعظيم استخدام الينابيع الساخنة مع توفير مساحة وظيفية وجمالية. تشمل العناصر المعمارية:
حوض دائري روماني: فريد من نوعه عالميًا، يُعد هذا الحوض أحد أبرز معالم الموقع. شكله الدائري، النادر في الحمامات الرومانية، قد يعكس تكيفًا مع الظروف الجيولوجية المحلية أو نية جمالية. تم ترميمه مؤخرًا للحفاظ على سلامته.
حوض مستطيل: نمطي في الحمامات الرومانية، كان يُستخدم للاستحمام الجماعي ومن المحتمل أن يكون محاطًا بأعمدة أو زخارف.
40 كابينة فردية: توفر هذه الغرف تجربة أكثر خصوصية، مما يتيح للزوار الاستمتاع بالمياه الحرارية بشكل منفرد.
خمسة أحواض إضافية: تختلف هذه الأحواض في درجات الحرارة (ساخن، فاتر، بارد)، وفقًا لنموذج الحمامات الرومانية مع مناطق مثل الكالداريوم (ساخن)، التيبيداريوم (فاتر)، والفريجيداريوم (بارد).
أنظمة هيدروليكية: بنى الرومان قنوات من الحجر والسيراميك لنقل المياه الساخنة من الينابيع إلى الأحواض، مع أنظمة تصريف لإزالة المياه المستعملة. لا تزال بقايا هذه القنوات مرئية.
تقنيات الهندسة
التدفئة الطبيعية: على عكس العديد من الحمامات الرومانية التي استخدمت نظام الهيبوكوست (تدفئة الأرضية)، استغل حمام الصالحين مباشرة حرارة الينابيع الجيوحرارية، مما قلل من الحاجة إلى الوقود.
إدارة المياه: صمم الرومان قنوات مائية وخزانات لتنظيم تدفق المياه ودرجة حرارتها، مما يضمن تجربة مريحة للمستحمين.
المواد: بُنيت الهياكل من الحجر المحلي، مع فسيفساء وطلاءات مقاومة للماء للأحواض، على الرغم من أن الزخارف (الفسيفساء، الجداريات) أقل حفظًا مقارنة بمواقع أخرى مثل جميلة أو تيمقاد.
العناصر الدينية
يشير معبد النيمفات، الذي بُني في عهد إيلاجابال، وتكريس للإله دراكو إلى أن الموقع كان له بُعد مقدس. كانت الينابيع الحرارية غالبًا مرتبطة بآلهة المياه في الثقافة الرومانية، وكانت القرابين أو الطقوس شائعة. الإله دراكو، القليل التوثيق، قد يكون إلهًا محليًا أو مزيجًا مع طقوس بربرية أو شرقية.
خصائص المياه الحرارية
الخصائص الفيزيائية والكيميائية
تنبع مياه حمام الصالحين من ينابيع جيوحرارية طبيعية، تصل درجة حرارتها إلى 70 درجة مئوية عند المصدر. تتميز تركيبتها الكيميائية بغناها بالمعادن، ومنها:
البيكربونات: تعزز الهضم وتقلل الحموضة.
الكلور: خصائص مطهرة، مفيدة للعدوى الجلدية.
الكبريتات: تأثيرات مضادة للالتهابات، مفيدة للمفاصل.
الحديد: يحفز الدورة الدموية.
النترات، المغنيسيوم، البوتاسيوم: تساهم في استرخاء العضلات وتوازن الإلكتروليت.
تُضفي هذه الخصائص على المياه فوائد علاجية معترف بها لعلاج:
الأمراض الروماتيزمية: التهاب المفاصل، الروماتيزم، آلام المفاصل.
الاضطرابات التنفسية: الربو، التهاب الشعب الهوائية المزمن.
مشاكل الجلد: الإكزيما، الصدفية، حب الشباب.
الاستخدام العلاجي
تعزز الحمامات الساخنة توسع الأوعية الدموية، مما يخفف آلام العضلات والمفاصل.
يساعد استنشاق الأبخرة على تنظيف المسالك التنفسية.
تحسن المعادن التي تمتصها البشرة حالات الجلد.
الأهمية الثقافية والاجتماعية
في العصر الروماني
كانت الحمامات الرومانية، مثل حمام الصالحين، مراكز متعددة الوظائف:
اجتماعية: أماكن لقاء لجميع الطبقات الاجتماعية، حيث يتم مناقشة الأعمال، السياسة، أو الفلسفة.
صحية: كانت الحمامات أساسية في مجتمع يقدّر النظافة.
دينية: كانت الينابيع الحرارية مرتبطة بالآلهة، مما يعزز طابعها المقدس.
علاجية: كان الأطباء الرومان يصفون الحمامات لعلاج أمراض مختلفة.
كان حمام الصالحين، الواقع في منطقة استراتيجية بالقرب من نوميديا الرومانية، يجذب على الأرجح السكان المحليين، الجنود، والمسافرين.
اليوم
يحتفظ الموقع بقيمة ثقافية كبيرة للجزائريين، يمثل رابطًا بين الماضي الروماني والتقاليد الحديثة للعلاج الحراري. يطلق عليه السكان المحليون اسم حمام الصالحين (حمام الأبرار)، وهو اسم قد يعكس إعادة توطين ثقافي بعد الرومان، ربما مرتبط بشخصيات دينية أو تاريخية محلية.
البنية التحتية الحديثة والسياحة
التجهيزات الحالية
تمت إعادة إدخال المياه إلى الموقع بعد الحفريات الأثرية وأعمال الترميم، خاصة في السنوات الأخيرة للحفاظ على الحوض الدائري الروماني. تشمل التجهيزات الحديثة:
40 كابينة للاستحمام الحراري: مجهزة للاستحمام الفردي، توفر الراحة والخصوصية.
5 أحواض مياه ساخنة: تشمل الحوض الدائري الروماني وأحواض حديثة أخرى.
تجهيزات سياحية: مناطق استراحة، غرف تغيير الملابس، ونقاط تقديم طعام تقدم أطباقًا محلية (مثل الكسكس أو الشريكة، حلوى أوراسية).
الإقامة: توجد فنادق وبيوت ضيافة بالقرب من الموقع، وإن كانت العروض لا تزال متواضعة مقارنة بمواقع مثل حمام ريغة أو بسكرة.
الزوار
مع ما يصل إلى 700,000 زائر سنويًا، يُعد حمام الصالحين أحد أكثر المواقع الحرارية شعبية في الجزائر. يشمل الزوار:
السياح المحليون: عائلات ومجموعات تأتي للاسترخاء أو العلاج.
المرضى: أشخاص يعانون من أمراض مزمنة يبحثون عن علاجات طبيعية.
السياح الأجانب: ينجذبون إلى التاريخ الروماني وجمال الأوراس.
البيئة الطبيعية
يقع الموقع في جبال الأوراس، ويتمتع بإطار استثنائي:
المناخ: معتدل، مع شتاء لطيف وصيف حار، مثالي للسياحة الحرارية.
المناظر الطبيعية: غابات من الصنوبر، البلوط، والأرز، مع إطلالات بانورامية على وديان الأوراس.
النباتات والحيوانات: تستضيف المنطقة أنواعًا مثل الخنزير البري، الثعلب، والنباتات الطبية المستخدمة محليًا.
تفاصيل أقل شهرة
النقوش الأثرية
تكريس عام 76 م: لوحة مكرسة لفسباسيان وتيتوس تذكر اكتمال أو ترميم الحمامات، من المحتمل أن تكون ممولة من النخب المحلية أو الإدارة الرومانية.
نقش عام 208 م: يوضح الإصلاحات التي نفذها جنود، ربما من الفيلق الثالث أوغسطس، المتمركز في نوميديا.
تكريس للإله دراكو: هذا الطقس نادر وقد يشير إلى دمج المعتقدات الرومانية والمحلية. قد يكون دراكو مرتبطًا بإله أفعواني، رمز للماء أو الشفاء في بعض الثقافات المتوسطية.
الخصائص الجيولوجية
تتغذى الينابيع الحرارية في حمام الصالحين من نظام جيوحراري مرتبط بالنشاط التكتوني في الأوراس. تُسخن المياه في الأعماق بواسطة الصدوع الجيولوجية، ثم ترتفع إلى السطح غنية بالمعادن. يشبه هذا الظاهر مواقع حرارية أخرى في الجزائر، مثل حمام بوحجار أو حمام مسخوطين.
الترميم الأخير
اكتمل ترميم الحوض الدائري الروماني في العقد 2010، بقيادة وزارة الثقافة الجزائرية والمكتب الوطني لإدارة واستغلال الأصول الثقافية المحمية. شملت الأعمال:
تدعيم الهياكل القديمة لمنع التآكل.
تحديث القنوات للحفاظ على جودة المياه.
إنشاء متحف صغير في الموقع، يعرض قطعًا أثرية مثل أجزاء من الفسيفساء والنقوش.
حكايات ثقافية
الاسم المحلي: حمام الصالحين (حمام الأبرار) قد يكون مرتبطًا بأسطورة محلية تربط الموقع بشخصيات مقدسة أو شفاءات معجزة، على الرغم من أن الأصل غير واضح.
التقاليد: يمارس الزوار المعاصرون أحيانًا طقوسًا غير رسمية، مثل إلقاء العملات في الأحواض لجلب الحظ، وهي عادة تذكر بالقرابين الرومانية للنيمفات.
التحديات والآفاق
الحفاظ
التآكل: التعرض المستمر للمياه الساخنة والعوامل الجوية يهدد الهياكل القديمة. يجب أن توازن جهود الحفاظ بين الاستخدام السياحي والحماية الأثرية.
الحفريات: جزء كبير من الموقع لا يزال غير مستكشف. قد تكشف الحفريات الإضافية عن غرف ملحقة، فسيفساء، أو مذابح.
التطوير السياحي
البنية التحتية: يمكن تحسين العروض الفندقية وطرق الوصول لاستيعاب المزيد من الزوار الدوليين.
الترويج: على الرغم من شعبيته محليًا، إلا أن حمام الصالحين أقل شهرة عالميًا مقارنة بمواقع مثل تيمقاد أو جميلة. يمكن لحملة تسويقية تعزيز جاذبيته.
الأثر الاقتصادي
يولد الموقع إيرادات كبيرة للمنطقة، موفرًا وظائف للأدلاء، الحرفيين، وأشخاص في القطاع الفندقي. ومع ذلك، يمكن لإدارة أكثر تنظيمًا تعظيم الفوائد للمجتمع المحلي.
مقارنة مع مواقع حرارية أخرى
يتميز حمام الصالحين ب:
قدمه: لا يزال قيد الاستخدام بعد 2000 عام، على عكس العديد من الحمامات الرومانية المهجورة.
حوضه الدائري: فريد من نوعه، يتناقض مع التصاميم المستطيلة النمطية للحمامات مثل حمامات كاراكالا في روما.
إطاره الطبيعي: يقدم الأوراس بيئة أكثر وحشية من المواقع الحضرية مثل حمام مسخوطين.
مقارنة بحمام ريغة (أكواي كاليداي) أو حمام بوحجار، يجمع حمام الصالحين بين تاريخ روماني موثق بشكل أفضل وتردد سياحي أعلى.
الخاتمة
حمام الصالحين أكثر من مجرد مجمع حراري: إنه جسر بين العصور القديمة والحداثة، مكان تلتقي فيه براعة الرومان مع التقاليد الجزائرية. تتداخل قصته، الموسومة بالفلافيين، السيفيريين، وطقوس النيمفات، مع مياهه العلاجية وإطاره الأوراسي المذهل. مع 40 كابينة، 5 أحواض، وحوضه الدائري الفريد، يجذب الموقع زوارًا من جميع أنحاء العالم، بينما يطرح تحديات الحفاظ للأجيال القادمة.
مضاف من طرف : patrimoinealgerie
صاحب المقال : Hichem BEKHTI
المصدر : Voyage Mai 2022